الوطن… الحكاية الكبرى

تم النشر في

كل إنسان يحتاج إلى مكان يعود إليه، جذور تمنحه شعور الأمان، وإلى قصة أكبر من نفسه يجد فيها المعنى. ذلك هو الوطن، الحكاية التي تسبقنا وتستمر بعدنا، والتي تمنحنا يقيناً أننا لسنا عابرين في هذه الحياة. وهذا ما يجعل الوطن حاضراً في تفاصيلنا اليومية، لا كمكانٍ نعيش فيه فقط، بل كإحساس يسكننا ويمنحنا دفء الانتماء.

الوطن ليس مجرد أرض نعيش فوقها، بل هو إحساس يتسلل إلى تفاصيلنا الصغيرة: في الطمأنينة التي نشعر بها عند سماع السلام الوطني، في الفخر الذي يغمرنا حين نرى منجزات تتسع عاماً بعد عام، وفي شعورنا العميق بالانتماء إلى أرضٍ لا تُشبه سواها. ومن هنا يظهر السؤال الأعمق: لماذا يشكّل الوطن هذا الثقل العاطفي والوجداني في حياتنا؟

من منظورٍ نفسي، الانتماء إلى الوطن ليس رفاهية، بل حاجة أساسية تُشبه حاجتنا إلى الأمان. فالإنسان لا يزدهر إلا حين يشعر أنه جزء من كيان أكبر، محاط بدفء الهوية والاعتراف. وهذا الانتماء لا يمنحنا الاطمئنان فحسب، بل يزيد من مرونتنا في مواجهة التحديات، ويجعلنا أكثر استعداداً للبناء والعطاء. وهنا ندرك أن الوطن ليس رمزاً ظاهراً فقط، بل هو ركيزة داخلية لصحتنا النفسية.

وإذا كان هذا الانتماء يمنحنا الأمان النفسي، فإنه في الوقت نفسه يصوغ ملامح هويتنا الفردية. فكل واحد منّا يعرّف نفسه من خلاله، ويجد في لغته وتاريخه وقيمه امتدادًا لذاته. ومن يفقد هذا الرابط، يفقد شيئاً من استقراره الداخلي. وهكذا يصبح الوطن مرساةً نفسية قبل أن يكون حدوداً جغرافية.

لكن، رغم أن المعنى النفسي عميق، يظل الوطن في النهاية قصصاً شخصية متفرقة تلتقي في صورة واحدة. هو الذكريات للأب الذي عاش التحولات، وهو الأمان للأم التي ترى مستقبل أبنائها، وهو الفرصة للشاب الذي يفتّش عن طريقه، وهو الامتداد العميق للطفل الذي يحفظ اسمه قبل أن يتقن الكلام. هذه القصص المختلفة تتقاطع جميعها عند نقطة واحدة: الوطن الذي يجمعنا مهما اختلفت أدوارنا وأحلامنا.

ومن هنا تأتي اللحظة الأهم: اليوم الوطني ليس مجرد ذكرى تأسيس نحتفل بها، بل محطة تأمل نراجع فيها مسؤولياتنا. فالوطن لا يبقى حياً بالشعارات وحدها، بل بالعمل الصادق، وبالقدرة على أن نضع مصلحة الجميع قبل مصالحنا الفردية. وكلما منحنا الوطن من علمنا وأمانتنا وصدقنا، كلما منحنا في المقابل طمأنينة واعتزازاً ورضا نفسياً لا يقدّر بثمن.

وبعد كل ذلك، تبقى رسالتي لكم اليوم أن الوطن مرآة لنا: كلما ازداد عطاؤنا له، ازداد انعكاس الرضا في نفوسنا. فلنجعل من حبنا للوطن فعلاً يومياً متجدداً، لا مناسبة عابرة. فالوطن يزدهر بنا، ونحن نزداد به ازدهاراً.

كل عام ووطني بخير… وكل عام ونحن بخير به.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org