هل نحتاج إلى مؤسسة رائدة في تعزيز الصحة..؟
بوصفنا متخصصين في تعزيز الصحة والصحة العامة نعلم يقينًا أن أحد أهم مهددات التنمية في السعودية هو العبء المرضي الناجم عن الأمراض غير المعدية، كأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والسرطانات.. وغيرها، وعوامل خطورة الإصابة بها كالسمنة والخمول البدني وتعاطي التبغ وأنماط الأكل غير الصحية.
ولمعرفة حجم التحديات الجسيمة الفعلية التي تواجهها التنمية الصحية في السعودية أشير إلى تقرير للبنك الدولي بعنوان "الأمراض غير المعدية في المملكة العربية السعودية.. نحو تدخلات فعالة للوقاية"، صدر عام 2021، وشارك فيه نخبة من الكفاءات السعودية، وأوضح أن الأمراض غير المعدية مهددٌ رئيسي نحو التقدم في تحقيق أجندة السعودية للتنمية المستدامة 2030، التي تتضمن هدفًا يتمثل في خفض الوفيات المبكرة الناجمة عن الأمراض غير المعدية بنسبة الثلث بحلول عام 2030.
ويضيف التقرير بأن هذه الأمراض تهدد تحقيق أحد أهداف رؤية السعودية 2030، المتمثل في زيادة متوسط العمر المتوقع من 75 إلى 80 عامًا بحلول عام 2030.
وفي تقرير آخر، صدر عن البنك الدولي عام 2022 بالشراكة مع المجلس الصحي السعودي، بعنوان "زيادة الوزن والسمنة في السعودية.. العواقب والحلول"، أوضح أن أكثر من نصف السكان البالغين في السعودية يعانون زيادة الوزن، وواحدًا من كل خمسة يعانون السمنة.
ومن المعلوم أن السمنة بوابة ضخمة للدخول في العديد من الأمراض المزمنة.
كما أشار التقرير إلى الازدياد المطرد لتلك الأمراض في السعودية. على سبيل المثال: زاد انتشار (Prevalence) مرض السكري وحده بنسبة 99% على مدى العقد الأخير في السعودية، وذلك من 1.4 مليون حالة عام 2009 إلى 2.7 مليون حالة في عام 2019.
وفي بُعد تنموي آخر يصل العبء الاقتصادي السنوي للأمراض غير المعدية إلى 91.6 مليار ريال سنويًّا، تشمل تكاليف نفقات الرعاية الصحية، وخسائر فقدان القدرات الإنتاجية في العمل؛ ما يعني أنها تعيق بشدة عجلة التنمية في السعودية، وذلك وفقًا لتقرير أعدته وزارة الصحة بالتنسيق مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) عام 2023.
وتأتي تلك الأرقام المقلقة في ظل حقيقة، مفادها أن ما يقرب من 73% من الوفيات في السعودية ناجم عن تلك الأمراض غير المعدية، وفق ما تشير إليه منظمة الصحة العالمية.
وتُعزى العديد من الأمراض غير المعدية إلى سلوكيات يمكن السيطرة عليها خارج المنظومة الصحية، من أبرزها تعاطي التبغ بشتى منتجاته، ونمط الغذاء غير الصحي، والخمول البدني.. وهي سلوكيات لا يمكن السيطرة عليها بمجرد تقديم خدمات علاجية في المنشآت الصحية فحسب، بل تحتاج إلى عمل مؤسسي مجتمعي لتعزيز الصحة، من خلال منظومة متكاملة، تنبع من المجتمع ذاته، وبمشاركته، عبر برامج ومبادرات وطنية، تمكِّن المجتمع من التحكم بصحته وتعزيزها، إضافة إلى الأنظمة والسياسات المعززة للصحة، وتوفير البيئات المعززة للصحة.
وتشير البراهين العلمية والتقارير الدولية إلى أن تمكين المجتمع وتفعيل دوره يمثلان أحد أهم استراتيجيات تعزيز الصحة ومواجهة الأمراض غير المعدية، وذلك من خلال المؤسسات والجمعيات الأهلية، والعمل المجتمعي المنظم.
ونحن بوصفنا متخصصين في مجال تعزيز الصحة والصحة العامة، نؤمن تمامًا بأن مواجهة تلك الأمراض لا يمكن أن تكتمل دون وجود ذراع قوية مساندة للجهات الصحية وغيرها من قِبل جمعيات ومؤسسات أهلية، وعمل مجتمعي مؤسسي، يعمل جنبًا إلى جنب مع القطاعات الحكومية؛ للعمل على تمكين المجتمع من أجل تعزيز صحته، والسعي لتحقيق أهداف رؤية 2030 الصحية.
ويبذل المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، بالشراكة مع وزارة الصحة، دورًا كبيرًا في تفعيل دور الجمعيات الصحية من أجل تعزيز الصحة في المجتمع على المستوى الوطني، إلا أن العمل في تلك الجمعيات يواجه العديد من التحديات الجسيمة.
ومن خلال ارتباطي بهذه الجمعيات لمدة تتجاوز 18سنة أجزم بأن لديها تحديات جسيمة في الإسهام في تحقيق أهداف تعزيز الصحة في رؤية 2030، من أعظمها وأهمها عزوف الكثير من المؤسسات المانحة عن دعم برامج ومبادرات تعزيز الصحة؛ كونها ليست في أولوياتها، مع تركيزها على الخدمات العلاجية البحتة في كثير من الأحيان. وينطبق ذلك على العديد من برامج المسؤولية الاجتماعية لدى الشركات.
ودعوني أشير إلى إحصائية صادمة، نُشرت في تقرير "دعم أعضاء المجتمع الصحي من المؤسسات الأهلية للقطاع الصحي في السعودية 2022"، الصادر عن مجلس المؤسسات الأهلية؛ إذ لم يتجاوز ما خُصص لبرامج التوعية الصحية أكثر من 1% من إجمالي جهود المؤسسات الأهلية لعام 2022 التي استُهدفت في التقرير، في حين أن 95% خُصصت للبرامج العلاجية وإجراء العمليات، وتوفير الأجهزة الطبية، وإنشاء العيادات.
وبالطبع، لا يمكن لوم بعض تلك المؤسسات؛ لأنها تعمل وفق توصيات مُلاكها، وخصوصًا ممن تُوفي منهم -رحمهم الله-، لكن نلوم القائمين عليها في عدم محاولة إقناع الملاك، ممن هم على قيد الحياة، بأهمية تعزيز الصحة والصحة العامة.
كما أتفهم موقف بعض تلك الجهات المانحة التي تشتكي من عدم وجود برامج نوعية ومبتكرة لتعزيز الصحة، واقتصار العديد من الجمعيات على برامج تقليدية ذات أثر مجتمعي محدود.
وفي سياق آخر، تعاني الجمعيات المعنية بتعزيز الصحة ندرة المتخصصين في مجالات تعزيز الصحة والتوعية الصحية والصحة العامة، وضعف الخطط الاستراتيجية، وإهمال التخطيط وفق النهج القائم على البراهين، مع محدودية الابتكار، وضعف التنسيق والشراكات، وفقدان الاستفادة من خبرات المنظمات الدولية، كمنظمة الصحة العالمية.
كل هذه التحديات الجوهرية والعميقة تعيق العمل المؤسسي للجمعيات الأهلية المعنية بتعزيز الصحة، وتُضعف مشاركتها بفاعلية في الإسهام في تحقيق الأهداف الصحية في رؤية 2030، وخصوصًا إذا علمنا أن في صلب تلك الرؤية استراتيجية تمكين القطاع غير الربحي والمجتمع، ومشاركته، والانتقال من النمط الرعوي إلى النمط التنموي التمكيني، والانتقال من مشاركة الجمعيات في التنمية "كمنفذ" إلى المشاركة في التنمية "كشريك".
والسؤال: ما هو الحل؟ حقيقةً، كنت أفكر في حل جذري لهذه المعضلة، حتى التقيت أخي عميد المشي في السعودية وأحد كبار المنافحين عن النشاط البدني في العالم العربي، الدكتور صالح الأنصاري، عندما طرح فكرة إنشاء مؤسسة خيرية لتعزيز الصحة.
ولا أخفيكم أنني أعجبت بهذه الفكرة، لكن لم أؤمن بها كثيرًا؛ كونها لن تجد الدعم والتأييد الكافي من القطاعات المعنية، وستواجه العديد من الصعوبات في التمويل، وتزاحُم أولويات القطاعات المعنية، إلى أن اطلعتُ على مقولة لسمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان –رعاه الله-، يقول فيها: "نحن ننظر إلى القطاع غير الربحي على أنه قطاع مهم في دعم مسيرة التعليم، ومسيرة الثقافة، وفي قطاع الصحة، وفي القطاع البحثي، وسنعتمد على القطاع غير الربحي بشكل رئيسي جدًّا". وهنا أيقنت أنه لنجاح هذه المؤسسة لا بد أن يكون لها ارتباط عالي المستوى بأحد القيادات العليا؛ لإعطائها الدعم والصلاحية والتأييد السياسي، والنفوذ الإيجابي، الذي يتجاوز بيروقراطية وروتين بعض القطاعات الحكومية.
وهذه المقولة الرائدة لسموه دعتني لأقترح عليه إنشاء مؤسسة غير هادفة للربح لتعزيز الصحة، تهدف إلى دعم الجمعيات الصحية المعنية بتعزيز الصحة والوقاية والصحة العامة، من خلال تمويل البرامج والمبادرات النوعية ذات الأثر المجتمعي، وتطوير البنى التحتية لها، وكذلك صناعة التأييد لتعزيز الصحة في القطاعات المعنية، كالمؤسسات المانحة والقطاع الخاص، والعمل على بناء القدرات المجتمعية في مجال تعزيز الصحة، والتخطيط لبرامجها واستراتيجياتها، وتفعيل دور الجمعيات في تمكين المجتمع، وبناء قيادات وطنية لتعزيز الصحة مجتمعيًّا، إضافة إلى إشراك تلك الجمعيات في صناعة الأنظمة والسياسات الوطنية ذات العلاقة، والعمل على رفع مستوى الشراكات لتلك الجمعيات داخل وخارج السعودية.
والحق يقال، إن سموه لا يضع يده في أمر إلا وسعى لدعمه وتمكينه، وتوفير التمويل الكافي له، وإيجاد البيئة الفعالة لتحقيق أهدافه.