إدارة التغيير.. من القشور إلى الجذور!!
تمرُّ عدد من المنظمات، بأنواعها، في السعودية بمرحلة تغيير شاملة أو جزئية؛ ما يستلزم إدارة ذلك التغيير بطرق منهجية مؤسسية، تضمن نجاحه.
ولغير المتخصصين، يمكن تعريف إدارة التغيير (Change Management) بأنها "منهجية تنظيمية للانتقال من حال إلى حال آخر في المنظمة، يحقق وضعية أفضل، ومنافع أكبر، ويقلص من الآثار السلبية على جميع الأطراف المرتبطة بها"، وفق موقع هارفارد بيزنس ريفيو؛ وهو ما يساعد في تكيفها مع المتغيرات الداخلية والخارجية، ويحفز نموها ونجاح برامجها وصناعة الأثر.
والتغيير في المنظمات له أنواعه واستراتيجياته، ويبدأ بتغيير محدود في المنظمة، وينتهي بما يسمى بالتغيير التحولي (Transformational Change)، وهو تحول جذري وجوهري في المنظمة، يستهدف معظم استراتيجياتها وأهدافها وسياساتها وأنظمتها وبرامجها، وهو ما نشهده في برامج التحول الوطني في رؤية 2030 الطموحة، التي يقودها، بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين، سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -وفقهما الله-، برؤية منهجية علمية احترافية، متشبعة بالإلهام والشغف.. لِم لا؟ وهو صاحب مقولة: "نحن نملك كل العوامل التي تمكننا من تحقيق أهدافنا معًا، ولا عذر لأحد منا في أن نبقى في مكاننا، أو أن نتراجع لا قدر الله".
ومما يسترعي التيقظ في إدارة التغيير أو التحول أنه محفوف بالعديد من التحديات والمخاطر؛ فوفقًا لأبحاث شركة الاستشارات العالمية (BCG)، فإن ما يقرب من 75% من عمليات التحول تفشل في تحقيق أهدافها.
وتشير الأبحاث إلى أن مخاطر الإخفاق ترتفع كلما كانت عملية التحول في منظمات ضخمة، كالمنظمات الحكومية الخدمية.
ولعل من أهم الإخفاقات في إدارة التغيير، أو التحول في المنظمات، تجاهل العمل وفق ما يسمى بالنهج القائم على الأدلة (Evidence-based Approach)، ومن ذلك عدم الاستناد إلى أي من النظريات والنماذج المعنية بإدارة التغيير، أو الاستناد لها بشكل صوري لا منهجي، متجاهلة أن عملية التغيير منظومة شاملة ومتكاملة من الخطط والعمليات، منها ما يتضمن التحليل المتعمق للتحديات وأصحاب المصلحة، وتحليل مجالات القوى (Force Field Analysis)، ومنها ما يصبو لتعزيز القدرات المؤسسية لصناعة التغيير، وغرس ثقافة التغيير في جذورها.
وغني عن القول أن نجاح برامج التغيير أو التحول مرهون بوجود قيادات عليا في المنظمة، تعمل بشكل متناغم ومتكامل فيما بينها، ومع بقية الموظفين. ولا يمكن أن يتم ذلك دون أن يمتلك أولئك القادة رؤية واضحة متفقًا عليها، ومعارف ومهارات عالية في إدارة التغيير.
ولا شك أن الشغف هو القلب النابض لتلك العملية، وبدونه يصبح العمل رتيبًا باردًا!!
وبعض القادة يديرون التغيير وفق عقلية آلية "ميكانيكية" جامدة، تفترض أن عملية التغيير تسير بخط مستقيم لا انحناء فيه!! وهي عقلية لا يمكنها التعايش مع تعقيدات التغيير، وستواجه اخفاقات جسيمة.
وغالبًا ما يؤدي ذلك الخلل إلى الانغماس في قشور عملية التغيير، وتغطية الإخفاق بنجاحات وهمية لا تمس جذوره.
وعوضًا عن ذلك يحتاج القادة إلى التعامل مع التغيير أو التحول ككائن حي "بيولوجي"، يحتوي على أعضاء وأنظمة وعمليات متداخلة ومترابطة، قابلة للتكيف والتطور، والهدم والبناء المتوازنَين.
وهذا يقودني للقول إن أحد أخطر التحديات في إدارة التغيير أو التحول الضعف البيّن في ترشيح وتوظيف كبار الموظفين في بعض المنظمات، ومن ذلك اعتماد قيادة المنظمة على الانطباعات والمعرفة الشخصية فقط كمعايير للتوظيف، وإهمال النهج الاحترافي في ترشيحهم.
وقد اقترحت في مقال سابق لي قبل عقد من الزمان أهمية أن يكون لدى المنظمات، كالوزارات وغيرها، "بنك القيادات"؛ لرصد أفضل الخبراء والقيادات في المجالات المتعلقة بعملها؛ وبالتالي تخرج من دائرة الاختيارات الارتجالية إلى الاختيارات القائمة على الخبرة والمهارة والكفايات، ويغلف ذلك سمة الشغف بمجال العمل، وحب الابتكار والمجازفة المنضبطة.
ولم أستطع تجاوز مقالة لخبير القيادة والتغيير، البروفيسور جون كوتر، في إحدى المجلات المتخصصة بالإدارة، يتحدث فيها عن أهمية استقطاب من سماهم "قادة حقيقيين للتغيير". ويشير بما معناه إلى أن بعض القطاعات تصاب بشلل في عملية التغيير؛ كونها تستقطب العديد ممن تعتقد أنهم "قيادات"، لكن تكتشف في نهاية المطاف أنهم مجرد مديرين، لا يمتلكون مهارات قيادية حقيقية وإلهامًا وشغفًا بالتطوير.
والتهديد الآخر أن يظل التغيير في عقول قيادة المنظمة وكبار مسؤوليها، ولا يتغلغل إلى جذورها وموظفيها بطريقة مؤسسية مؤثرة. والأخطر أن يتبنى قادة التغيير مبدأ إن لم تكن معي فأنت ضدي!! ويتجاهلون أن "مقاومة التغيير" والارتباك والخوف لدى بعض الموظفين نتاج طبيعي لأي عملية تغيير، وعليهم مواجهتها وفق خطة متكاملة، تصنع "ثقافة التغيير" بطريقة سلسة ومنهجية، تمتص تلك المقاومة، وتحاول إما تحييدها أو نقلها لدائرة المساندة.
ويشمل ذلك وضع الموظفين في قلب عملية التغيير منذ البداية، وليس على أطرافها أو خارجها يتفرجون!! مع بناء "خطة تواصل" مستمرة وفعالة، مبتكرة وشفافة، تنصت وتتفاعل مع الموظفين ومخاوفهم، تفهم أسباب المقاومة، وتزيل الغموض عنها، مع برامج تدريبية تأهيلية.
ومن أصعب ما يؤثر على عملية التغيير إقحام موظفين جدد، لا يمتلكون المعرفة والخبرة الكافية في قيادة وإدارة التغيير، بطريقة اندفاعية غير مدروسة، وتهميش المخضرمين ممن لهم خبرات ودراية عالية، لا لشيء سوى أنهم من فئة "ما قبل التغيير"!! وهو ما قد يؤدي لانفراد أولئك الجدد باتخاذ القرارات، والتنظير الشكلي، وإشاعة التهميش والفرقة بين الموظفين الجدد والمخضرمين؛ وبالتالي تفاقم "مقاومة التغيير" في المنظمة.
وهنا أتحدث تحديدًا عن المخضرمين ذوي الكفاءة والخبرة، ثم انتقل لمحور مهم في إدارة التغيير أو التحول، يتضمن التواصل البنَّاء والتفاعلي مع الفئات المستهدفة من أهداف وخدمات المنظمة ومنتجاتها، والإنصات لصوتهم واحتياجاتهم، وقياس مستوى تحقيق الأهداف بطرق وأدوات واقعية، تضمن حوكمة وشفافية عالية، لا مرد فيها إلى غموض أو مبالغات.
والمؤسف أن شريحة من أفراد المجتمع بدأت تفقد مصداقيتها تجاه بعض المنظمات؛ كونها تفاخر بنسب مرتفعة من "رضا العميل"، ونجاحات سطحية مغلفة بضجيج إعلامي لا يلامس ما يجده العميل على أرض الواقع!!
أخيرًا، حديثي هنا لا يلغي إطلاقًا وجود العديد من قصص النجاح المميزة والمبتكرة في إدارة التغيير أو التحول في القطاعات الحكومية والأهلية والخاصة. ولعلي أقترح على المكتب الرئيسي لرؤية 2030 أن يحصر تلك القصص، ويصوغها بقالب تواصلي مبتكر، ويعقد لها ورش عمل مع القطاعات الأخرى؛ للتعلم والاستفادة منها.