عن الفقد.. بين أحبتنا وأحلام لم تكتمل

تم النشر في

هل مررت بيوم شعرت فيه أن جزءاً من روحك قد غادر، وأنك لم تعد الشخص ذاته الذي كنت عليه بالأمس؟ الفقد يشبه باباً يُغلق بصوت خافت، لكن صداه يبقى يتردد طويلاً في أعماق القلب. هناك وجوه لا تفارق الذاكرة، أصوات نسمعها وكأنها تختبئ بين اللحظات، وروائح تباغتنا في الأماكن القديمة فتوقظ مشاعر لم نعتقد يوماً أنها ستعود بهذه القوة.

الحزن ليس لحظة واحدة تنتهي، بل هو موجة تأتي على شكل ذكرى، كلمة، أو حتى أغنية عابرة تجعلنا نعيش الرحيل من جديد. الفقد يعلّمنا أن الزمن ليس دائماً كافيًا ليجبر القلوب، لكنه يعلّمنا كيف نتعايش مع الألم ونحوّله إلى مساحة حب صامتة داخلنا.

ومن منظور الدراسات في علم النفس، فإن مشاعر الفقد طبيعية جداً، بل هي جزء أساسي من تجربة الإنسان مع الحب والارتباط. ووفقًا لنظرية كوبلر-روس (Kübler-Ross) حول مراحل الحزن الخمس، يمر الإنسان عند مواجهة الفقد بمراحل تبدأ بالإنكار، وكأن العقل يحاول حماية القلب من الصدمة، ثم يتحول الغضب إلى أسئلة عن "لماذا أنا؟ ولماذا الآن؟"، تليها محاولة المساومة مع النفس والذكريات، قبل أن نغرق في مرحلة الحزن العميق، التي تكون أقسى اللحظات وأكثرها وضوحاً. ومع الوقت، يأتي القبول، ليس لأنه سهل، بل لأنه السبيل الوحيد للعيش من جديد.

ومثلما نفقد أشخاصاً أعزاء، نفقد أحياناً أحلاماً وأماكن تركت فينا الأثر ذاته. قد نفقد حلماً عشنا سنوات نحلم بتحقيقه، أو فرصة كانت تعني لنا الكثير ولم تأتِ، أو حتى نفقد الأماكن التي حملت ضحكاتنا ودموعنا وأحلامنا الأولى. وهناك فقدٌ أشد صمتاً لكنه عميق، مثل أن نفقد نسخة قديمة من أنفسنا، تلك النسخة التي كانت مليئة بالبراءة والشغف، لكن الحياة دفعتها إلى الزوايا البعيدة. ومع كل هذا، ندرك أن القيمة ليست فيما فقدناه، بل في القوة التي اكتسبناها ونحن نحاول المضي رغم الغياب.

هذه الأنواع من الفقد لا تكون واضحة للآخرين مثل فقد شخص، لكنها تعيش فينا. قد نشعر أحياناً أننا تغيرنا بشكل لم نعد نتعرف فيه على أنفسنا، أو أن الطريق الذي كنا نسير فيه لم يعد موجوداً. لكن حتى هذا الفقد يعلّمنا أن الحياة لا تُقاس بما نتركه وراءنا، بل بما نصنعه من جديد.

نحن نؤمن أن كل ما نفقده لم يكن ليبقى، وأن الأرزاق والمشاعر والأشخاص بيد الله وحده، يعطيها حين يشاء ويستردها حين يشاء. وربما يكون الفقد رحمة لا نراها الآن، لكنه يحمل حكمة مخفية، قد لا نفهمها إلا حين نرى الصورة كاملة. الإيمان بأن ما عند الله لا يضيع، وأن كل لقاء مؤجل سيكتمل في الآخرة، يمنح القلب طمأنينة وسط هذا الضجيج، ويعلّمنا الرضا بما كان وما سيكون. ومع كل هذا، يبقى الألم جزءاً من إنسانيتنا، لكنه يهدأ حين نؤمن أن ما كُتب لنا لم يكن ليُخطئنا، وأن كل فقد يفتح لنا باباً لننظر إلى الحياة بعين مختلفة، أكثر قرباً من المعنى، وأكثر امتناناً لكل لحظة نعيشها.

الفقد ليس فقط نهاية لما رحل، بل بداية لما يتشكل داخلنا من قوة وصبر وحكمة، سواء فقدنا أشخاصاً أحببناهم أو أحلاماً كبرنا معها. الفقد مهما كان ثقيلاً لا يُسقطنا، بل يعيد بناءنا بطريقة مختلفة، ربما أجمل. والذين رحلوا تركوا فينا أثراً لا يُمحى، والأحلام التي غابت همست لنا أن الحياة ما زالت تحمل ما يستحق أن نكمل لأجله.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org