السر في الاندماج.. هل أنت مندمج؟

تم النشر في

مع تسارع الحياة وأحوالها المختلفة والمتنوعة كثيرا ما ننسى عن لحظة ( الآن )، تلك اللحظة التي نعيشها، للأسف أننا نستغرق ذهنيا في ماضي بعيد قد انتهى أو مستقبل مأمول لا نضمن الوصول إليه. نتنقل باستمرار بين الأمس والغد، بين ذكريات الماضي وقلق المستقبل، بين ما كان وما قد يكون، وننسى ما هو كائن. ننسى اللحظة الحالية التي نستطيع بإذن الله التحكم فيها. وهذا هو السبب الحقيقي خلف عدم وجود سعادة ورضا ومزاج جميل لدى كثير من الناس.

السعداء هم من عرفوا الطمأنينة رغم كل تقلبات وأوضاع الحياة، والسبب من وجهة نظري أنهم أدركوا أهمية الانغماس في اللحظة أو ما يمكن أن نطلق عليه الاندماج.

الاندماج يمكن أن نعرفه بأنه حالة عقلية ونفسية يختارها الإنسان بوعي وتحكم وإصرار حتى يعيش اللحظة الحالية بتفاصيلها الدقيقة. أن يكون الإنسان مع الموقف الحالي بتركيزه ونفسه وعقله ومشاعره قبل جسده، وهذا هو تذوق الحياة كما هي بدون أي مشتتات تصرف الانتباه سواء للماضي أو المستقبل. ما أجمل أن يعيش الإنسان كل موقف بكامل وعيه وانتباهه بحيث يكون في قمة الاندماج والانغماس في اللحظة الحالية. في هذا المقال سأذكر بعض الأمثلة المهمة في الاندماج وأثرها على وصول الإنسان للسعادة الحقيقية.

إن الخشوع في الصلاة يعتبر ذروة الاندماج وهو مثال نطبقه خمس مرات في اليوم والليلة لمن وفقه الله للصلاة بالخشوع التام. ويتحقق ذلك حينما يتذكر الإنسان أنه يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيكون الجسد هادئ والقلب ساكن، والعقل مركز في كل آية، والنفس مطمئنة. وبذلك يتحقق بإذن الله مضمون قول الله تعالى ( قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون)

الاندماج مع الأسرة يعد سر من أسرار نجاح البيوت واستمرار العلاقة الزوجية وتربية أبناء أسوياء.

كم من أب محروم يجلس مع أولاده، لكن عقله في العمل أو مع هاتفه الجوال!!

وكم من أم محرومة تلعب مع أبناءها بينما جزء كبير من تفكيرها في جدول المهام!!

هذا عكس الاندماج، بل هو غياب حقيقي مغلف بالحضور الجسدي الباهت الذي قد فقد معناه بغياب العقل وتشتته وعدم تركيزه على اللحظة الحالية.

أن تندمج مع أسرتك يعني أن تُصغي بكل جوارحك، أن تضحك معهم من قلبك، أن تلمس قلوبهم قبل أيديهم.

إن الأطفال يشعرون بالحضور والانتباه أكثر من مسألة التواجد الجسدي. الزوج والزوجة بحاجة ماسة لإصغاء بعضهم لبعض وهذا أجمل هدية يمكن أن يقدماه لبعضهما.

كوب القهوة الذي تشربه الآن، ملعقة الآيسكريم التي تلامس لسانك، رائحة الطيب التي تسللت إليك، المنظر الخلاب الذي تشاهده، لحظات مهمة لتحقيق الاندماج.

قد يظن البعض أن الاستمتاع بفنجان القهوة مجرد رفاهية، لكنه في الحقيقة تدريب على الانغماس. أن تشرب قهوتك وأنت حاضر الذهن، تستنشق رائحتها وأنت تردد ( أمممممم )، تتأمل لونها، تشعر بحرارتها.. فأنت تتدرب على الاندماج مع التفاصيل. تلك التفاصيل التي تصنع معنى حقيقي للحياة.

إن الاندماج في العمل سر من أسرار السعادة والتميز الوظيفي. سيكون بإذن الله أحد متغيرات بحثي في دراسة الدكتوراه عن الاندماج الوظيفي وكيف يمكن الوصول له.

الاندماج في العمل يعني أن تكون شغوفا، مركزا، مخلصا فيما تقوم به. الموظف الذي يندمج في مهمته يبدع، ويختصر الوقت، ويشعر بالرضا. بينما من يعمل وقلبه معلق بوقت البصمة والانصراف عن العمل، أو يتابع هاتفه كل خمس دقائق، لن يتقن ولن يستمتع.

إن القلق والحزن والذكريات المؤلمة التي لا يعرف الإنسان كيف يتعامل معها هم أعداء الاندماج.

الحزن يعيش في الماضي، والقلق يسكن المستقبل، وكلاهما يسرقان منا جمال اللحظة. من يعيش الندم أو الخوف لا يمكنه أن يندمج. لذا يجب عليه أن يتدرب على عيش اللحظة، كل لحظة تحياها باندماج حقيقي، هي مصدر من مصادر السعادة.

الصداقة الحقيقية تحتاج إلى اندماج. أن تكون معهم، لا جسديا فقط، بل ذهنيا ونفسيا. أن تسمع دون أن تقاطع، أن تشاركهم الضحك والتأمل، أن تشعر بمشاعرهم وتتفاعل معها. الأصدقاء يعرفون من يندمج معهم، ويعرفون من يجاملهم بجسده بينما روحه في مكان آخر.

لدي مجموعة من الأصدقاء الرائعين، نجتمع مساء كل أربعاء، نتحدث عن أحوال الحياة ونتجاذب أطراف الحديث، نمنع رفع الجوال أثناء تواجدنا ونذكر بعضنا البعض بهذا الأمر كي نحقق مفهوم الاندماج والانغماس في اللحظة الحالية وقاعدتنا الدائمة ( كن معي وأنت معي ).

لن يكون الإنسان سعيدا وهو يعيش في عقلين الأول في الحاضر، والثاني في الماضي أو المستقبل. لن ينعم بلحظة سعادة وهو يتصفح هاتفه أثناء تواجده بين أحبابه.

شكرا لعقلاء الأسر الذين يؤكدون على عدم فتح الجوال أثناء مناسبات الأسر. الذين يرددون باستمرار لنصغي باهتمام لبعضنا البعض، لنجعل لحظاتنا سعادة وفرح وابتسامة ونركز على اللحظة الحالية.

يجب أن ندرب أنفسنا على الأمور التالي:

ركز على قراءة كتابك واندمج مع كل كلمة.

استمع لصوت الأذان بإنصات وردد خلف المؤذن بخشوع.

استمتع بالحديث مع والدك ووالدتك وزوجتك وأطفالك بدون مقاطعة واندمج معهم بحب.

اقرأ القرآن بتركيز تام وتأمل معانيه.

كل لحظة تندمج فيها، هي لحظة حياة حقيقية. وكل لحظة تغيب فيها، هي وقت ضائع من العمر.

اسأل نفسك، هل أنا مندمج؟؟ إذا كانت الإجابة نعم فاحمد الله وإن كانت غير ذلك فتوكل على الله وابدأ الآن.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org