"جيل ضائع وما فيه خير"!!
جيل ضائع، شباب مستهتر، عيال آخر زمن.. كلمات غاضبة كثيرًا ما تصادفنا في حياتنا بصورة شبه يومية، يصف بها البعض حال هذ الجيل، جازمين ومؤكدين بكل قسوة أنه جيل لا فائدة تُرجى من ورائه، وأنهم متحللون من كل القيم والمبادئ التي تعارفنا عليها.. وشكلت شخصيتنا وباتت جزءًا من موروثنا الاجتماعي والأخلاقي.
هذ التذمر من الأجيال الجديدة – كما يشير كثير من علماء النفس - سلوكٌ لا يقتصر على جيل بعينه، بل هو ظاهرة إنسانية، لطالما كانت موجودة منذ آلاف السنين، وفي مختلف الحضارات والثقافات والمجتمعات، حتى قال عنه الكاتب البريطاني مات ريدلي: "ربما لم يكن هناك جيل منذ العصر الحجري القديم حتى اليوم لم يتأسف على عجز الجيل التالي، ويقدس ذكرى الأيام الماضية".
بعيدًا عن موضوعية هذه الآراء ومصداقيتها فإنني أرى – من ناحية مبدئية - أن التعميم هو نهج خاطئ، وأن التسرع في إصدار الأحكام يخالف المنطق، بغض النظر عن تراتبية الأجيال وأسبقيتها، فمثلما يوجد من يستخفون بالقيم والموروثات والثوابت هناك بالمقابل من يحرصون عليها، ويتقيدون بها.
وإذا نظرنا بمنظور الإنصاف إلى الظروف التي كانت موجودة في السابق، وما نواجهه جميعًا في هذا العصر، سنجد أن أجيال الألفية الجديدة محاطة بالعديد من التحديات غير المسبوقة، وتتعرض للعديد من المؤثرات التي يمكن أن تزلزل الإنسان، وتجعله كالقشة في مهب الريح.
فهناك وباء المخدرات والمؤثرات التي تستهدف عقول الشباب وصحتهم النفسية، التي انتشرت بصورة أقرب إلى الحرب الشاملة؛ إذ تكثر شبكات الشر التي تحاول إغراء أبنائنا، ودفعهم إلى الانسلاخ من الواقع، والهروب إلى عوالم الوهم والضياع.
وإن كانت المخدرات هي أسوأ آفة عرفتها البشرية في تاريخها فإن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي لا يقل خطورة عنها؛ فكلاهما يؤثر على القدرات العقلية؛ فوسائل التقنية الحديثة، مثل الهواتف المحمولة وشبكات الإنترنت، نقلت العالم كله بين أيدينا، وأصبحت تلك الأجهزة نوافذ نطل عبرها على العالم المحيط بنا، ونتعرف على أنماط معيشة الآخرين وطرق تفكيرهم؛ ومن ثم تنشأ المقارنات بين واقعنا وواقعهم؛ وهو ما يتسبب في حدوث العديد من الهزات لعقول الشباب.
ومما يضاعف من سلبيات تلك المؤثرات أن كثيرًا من الآباء والأمهات وأولياء الأمور لا يزالون -للأسف- يتمسكون بأساليب التربية القديمة، ويميلون إلى إصدار الأوامر والنواهي مع أبنائهم حتى بعد أن يصبحوا شبابًا، ويحاولون السيطرة عليهم، وفرض الرأي دون احترام لرغباتهم ووجهات نظرهم وأسلوب تفكيرهم.. وهذه النقطة هي سبب كثير من الخلافات والجفوة بين الجانبين، التي قد تتسع في كثير من الحالات لتصل لمرحلة الصدام والمواجهة، وتدفع كثيرًا من الشباب إلى حالة من اللامبالاة والسلبية والعناد.
كذلك فإن الأطفال الذين ينشؤون في بيئات تربوية تتسم بالقسوة، ويكثر فيها الضرب والتوبيخ والتقليل من الشأن، تتولد لديهم ردود أفعال عكسية، تتجسد في المعاندة والمكابرة كنوع من الشعور بالنقص الذي يحاولون تعويضه بارتكاب أفعال تزعج مَن حولهم؛ لإشعارهم بوجودهم.
وبطبيعة الحال فإنني لا أدعو إلى التدليل الزائد للأبناء، أو مسايرتهم وتلبية جميع طلباتهم، لكن لا بد من التواصل معهم، والاستماع لآرائهم، وتعزيز قنوات الحوار، وأن نتفهم ظروفهم، ونراعي المرحلة العمرية التي يمرون بها، وأن نأخذ بأيديهم، ونساعدهم على عبور هذا المنعطف الرئيسي في حياتهم، وأن لا نقسو في الحكم عليهم.
فأبناؤنا هم انعكاس لمجتمعاتنا، وصنائع أيدينا، وحصاد تربيتنا.. وقبل أن يصلوا إلى هذه المرحلة كانوا أطفالًا، نشؤوا في أحضان عائلاتهم ومدارسهم، وتنقلوا في فضاءات المجتمع، يلاحظون عن قرب سلوكيات أفراده، ويتأثرون بها؛ لذلك علينا أن نحسن تربيتهم، وأن نراعي المتغيرات والمؤثرات التي تحدث بين كل جيل وآخر، وأن نكون قدوات صالحة لهم؛ فالتربية بالقدوة خير من التلقين والتنظير.