حينما يمتزج الاقتصاد بنكهة الحب

تم النشر في

يخطئ من ينظر للاقتصاد على أنه مجرد منظومة قائمة على الإنتاج وتبادل المنفعة وإدارة الموارد، وأن اللافتة الوحيدة الموجودة في هذا العالم هي النقود أو الذهب، وأن لغته الوحيدة هي الأرقام التي عبر تحليلها وقراءة ما بين سطورها تتضح حقيقة توجهاته. فهذا المفهوم لم يعد مقبولا في هذا العصر الذي تزايدت فيه احتياجات الناس وتشعبت، وتعاظم دور القطاع غير الحكومي، وتشابكت الخطوط الدقيقة التي تفصل ما بين العام والخاص.

نتيجة لذلك تحول الاقتصاد إلى "حراك مجتمعي" إن جاز التعبير، لا سيما في ظل التسهيلات التي يحظى بها القطاع الخاص والتي لا بد من إعادتها للمجتمع في شكل خدمات وأنشطة أصبحت تعرف بـ "المسؤولية المجتمعية" التي تشمل المجالات الطبية والتعليمية والخيرية وغير ذلك.

فالمجتمعات العصرية تنتظر من المؤسسات والشركات التجارية أن تقوم برد الدين لها لأنها أساس نجاحها وسبب نهضتها، وأن تسهم إيجابا في دعم الشرائح الأكثر احتياجا، لأن ذلك يساعدها على تحسين أوضاعها ومن ثم المشاركة في دوران عجلة الاقتصاد. وهذا التوجّه الفريد جاء به الإسلام قبل ما يزيد على 14 قرنا عندما فرض الزكاة لتنشيط دورة المال بين الناس (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم).

وفي فترات مختلفة من التاريخ تزايدت الدعوة لإيجاد صيغة مقاربة بين المصالح الاقتصادية الخاصة التي تخص رجال الأعمال والمصالح العامة التي تهم المجتمع بشكل أعم. فالتدريب المنتهي بالتوظيف للشباب وخريجي الجامعات هو تفكير اقتصادي ممزوج بنوع من الحب، لأنه يعني اهتمام القطاع الخاص بتمليك هؤلاء الشباب مصادر الدخل التي تعينهم على مساعدة عائلاتهم وتكوين أسرهم الصغيرة، كما يمثّل استثمارا اقتصاديا في كوادر وطنية لتأهيلها بما يتناسب مع المهام التي سيشغلونها مستقبلا.

كذلك فإن إسهام رجال المال والأعمال وأصحاب الشركات في توفير منح دراسية للطلاب يساعد غير القادرين على مواصلة تعليمهم العلمي وفي ذات الوقت يضمن وجود كوادر وظيفية مؤهلة قادرة على تلبية احتياجات هذه الشركات مستقبلا.

وتقديم الدعم للعائلات المنتجة هو تعبير عن مشاعر نبيلة لأنه يعين الأرامل والمتعففين الذين يريدون اكتساب قوتهم بعرق جبينهم، والاهتمام بمراعاة عوامل البيئة واستخدام مصادر الطاقة النظيفة يعبر عن اهتمام أصحاب المصانع بالحفاظ على بيئة مثالية للأجيال المقبلة بما يسهم في تنشئتهم بصورة صحية خالية من الأمراض.

خلاصة القول إن الاقتصاد كما قال رائد الرأسمالية آدم سميث "مبني على حب الذات"، فلا بأس من منظور فقه الضرورة أن نوسّع هذا المفهوم قليلا ليشمل حب الذات وحب المجتمع. فهناك قواسم مشتركة كثيرة بين الاقتصاد والحب ينبغي أن يتم تأطيرها بشكل صحيح بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فإذا زادت مشاعر الحب عن الحد المطلوب فإن ذلك قد يحدث خللا في المعادلة ويحولها إلى نوع من الإحسان والعطف.

وفي المقابل إذا طغت النظرة الاقتصادية البحتة وسادت الاعتبارات الذاتية عند رجال الأعمال والمستثمرين فإن المجتمع سيتحول عندها إلى غابة تسكنها مجموعة من الوحوش التي تتصارع لتحقيق مصالحها الخاصة دون الاهتمام بالشأن العام.

وهنا يبدو بوضوح الفرق بين الاقتصاد الرأسمالي الذي تغيب فيه الاعتبارات الإنسانية وتغلب فيه الأنانية وبين الاقتصاد الإسلامي الذي أقر الملكية الخاصة، لكنه بالمقابل فرض الزكاة ومنع الربا والاحتكار والغش والتدليس، وأعلى من شأن الإنسانية التي ميزنا بها الله تعالى على سائر مخلوقاته.

صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org