بالنسبة للكثير كان الحصول على المعطف الأبيض بمثابة حلم تَحقق، وقد يجهل الكثير حجم المعاناة التي بُذلت لتحقيق الحلم، ويجهل محققو الحلم أن الليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب، وأن قادم الأيام في التخصص ليس بأقل مرارة مما مضى.
"عبدالنافع" درس الطب ثم سنة الامتياز مع العديد من الاختبارات مصحوبة بضغوط الحصول على برنامج تدريبي، تَبِعها سلسلةٌ من سنوات عجاف في البرنامج بين ضغوط الحياة وضغوط الطب وضغوط ينفرد بها معشر الأطباء دون غيرهم (ضغوط المهنة).. تلا ذلك البحث عن تخصص دقيق، مرددًا ومضى قطار العمر!
منذ اليوم الأول في الطب يصاب الشخص بمتلازمة الإرهاق التي تختبئ خلف ستار فرحة القبول بالطب، وقد لا تظهر أعراضها إلا متأخرًا؛ عندها يدرك أنه "فات الميعاد، والنار ربما لن تصبح دخانًا ورمادًا بل ستتأجج، ولن يفيد الندم وستطول ليالي الألم وربما يتفرق الأحباب" وقد ينتهي الأمر لا إراديًّا بالاحتراق.
الإرهاق الطبي هو متلازمة منتشرة بشكل متزايد توصف بأنها "أزمة صحية عامة تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة".. ووفقًا لبحث نُشر في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية فإن الإرهاق يؤثر على ما يقرب من ثلثي الأطباء، ويتسم بالإرهاق العاطفي، وتَبدد الشخصية التي تظهر على أنها تهيج وانفصال وانعدام الإحساس بالإنجاز الشخصي.
الإرهاق ظاهرة مهنية واسعة الانتشار ومضرة وهي نتاج لضغوط العمل على المدى الطويل.. أسبابها عديدة؛ ومنها ساعات العمل الطويلة، وغياب التوازن بين العمل والحياة، والعبء الإداري، والاستنزاف العاطفي؛ مما ينتج عنه إرهاق وبالتالي التأثير الكبير على جودة الرعاية المقدمة للمرضى وربما التسبب في أخطاء طبية مكلفة.
وقد أرجع 60٪ من الأطباء إرهاقهم إلى المهام الإدارية، مثل ملء الاستمارات، والتأثير السلبي لنظام الرعاية الصحية ومكان العمل على حياتهم الشخصية. كذلك انخفاض رضا المريض وجودة الرعاية، وارتفاع معدلات الخطأ الطبي ومخاطر سوء الممارسة.
أتمتة الأنظمة الصحية التي أريد بها تقليل الإرهاق؛ ربما أدت لنتائج عكسية؛ فوفقًا لدراسة أجريت على أطباء الرعاية الأولية؛ كانت السجلات الصحية الإلكترونية (EHR) مسؤولة عن ضغوط العمل وإرهاق الطبيب؛ حيث كشفت الدراسة أن الأطباء المتدربين يقضون 12٪ فقط من وقتهم في رعاية المرضى المباشرة مقارنة بـ40٪ على استخدام الكمبيوتر.
من الصعب الحصول على تقدير دقيق لحالات الإرهاق لدى الأطباء؛ فقد لاحظت مراجعة منهجية حديثة شملت 182 دراسة نُشرت بين عامي 1991 و2018 وشملت 109.628 فردًا في 45 دولة، تباينًا كبيرًا في تقديرات انتشار الإرهاق بين الأطباء، تتراوح من 0٪ إلى 80.5٪، ويبدو أن هذا مرتبط بالاختلافات المهمة في تعاريف المتلازمة وطرق التقييم المطبقة.
صَنّف تقرير الإرهاق والانتحار للأطباء الوطني لعام 2020 في Medscape حالات الإرهاق في 29 تخصصًا طبيًّا؛ أهم ثلاثة تخصصات طبية للإرهاق هي المسالك البولية (54٪)، طب الأعصاب (50٪)، وأمراض الكلى (49٪)، وسجلت أقل نسبة من حالات الإرهاق في الجراحة العامة (35٪)، والطب النفسي (35٪)، وجراحة العظام (34٪)، وجاء التخدير في المركز السادس عشر بنسبة 41٪، وطب الطوارئ في المركز 14 بنسبة 43٪، والرعاية الحرجة في المركز العاشر بنسبة 44٪.
يتميز الإرهاق لدى الأطباء بالإرهاق العاطفي، والإحساس بأن العمل لم يعد له معنى، ومشاعر عدم الفعالية، وتشمل المظاهر المرتبطة بالإرهاق: (الصداع، والأرق، والتوتر، والغضب، وضيق الأفق، وضعف الذاكرة، وانخفاض الانتباه).
الحلول كثيرة وفي متناول اليد، ولعل أبرزها تحسين كفاءة الممارسة، وخلق توازن بين العمل والحياة، والمشاركة في أنشطة الرعاية الذاتية مثل كتابة اليوميات والتمارين الرياضية والتواصل مع الأحبة والزملاء، وتقليل وصمة العار المحيطة بالصحة العقلية (لتشجيع الأطباء على مراجعة الطبيب النفسي)، وتوفير التدريب على إدارة الإجهاد، وتعديل ساعات العمل وتنوع المهام، وتفويض المهام للأشخاص المناسبين، وبعض الأطباء قد يلجأ إلى تقليل الإرهاق باتباع مسارات وظيفية بديلة مثل تغير التخصص أو التطبيب عن بُعد.