الأكاذيب البيضاء وصراحة الأطباء

الطفلة لديها سمات خلل وراثي قاتل، والطبيبة تردد أنها جميلة ومثالية؛ لأنها لا تجد ما تقوله، والطفل يحتضر، والطبيب يردد لا يزال هناك أمل، والغرض ليس خداع الوالدين، ولكن لتخفيف وطأة المصيبة، الشيخ قاسم مصاب بمرض خطير ويصرّ على معرفة التشخيص، أولاده يحاولون جاهدين مع الطبيب (قد يصل الأمر للتهديد والوعيد) ألا يخبره؛ خوفًا على حالته النفسية، فهل يكذب الطبيب؟ أم يقول الصدق و...

بدايةً وقبل كل شيء، الأطباء بشر يخطئون ويصيبون، يحاولون في كثير من الأحيان تخفيف وطأة مواجهة المريض بالتشخيص أو الخطة العلاجية، خاصةً إذا كانت الأخبار قاسية من خلال إخفاء بعض التفاصيل خاصة السلبية، أو إعطاء إجابات غير واضحة دون الانتباه إلى أنهم يزيدون الألم والمعاناة المرضية ولو بحسن نية.

الأطباء قد لا يتذكرون وربما يتناسون في زحمة العمل أن الطب هو علم وفن التعامل مع الآخرين خاصة المرضى وذويهم، وأن في الطب أشياء معروفة وأشياء غير معروفة، أشياء نؤمن بها وأشياء لم نستوعبها أو لم يصل الطب لدهاليزها وسبر أغوارها {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. أيضًا هناك طبيب حكيم وآخر تنقصه الحكمة والحنكة، وربما يخلط بين ما يعتقده وبين ما يعرفه.

ويُعرّف الكذب بأنّه القول المخالف للحقيقة، والكذب يكون إما بتزييف الحقائق جزئيًا أو كليًا أو اختلاق روايات وأحداث جديدة، وفي الجانب الطبي أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بأنه يجوز الكذب على المريض إذا كان الكذب ينفعه ولا يضره ولا يضر غيره، وإن أمكن أن يستعمل الأطباء "المعاريض" دون الكذب الصريح فهو أحوط وأحسن.

لا ينبغي للأطباء أن يكذبوا حتى وإن اعتقدوا أنه لصالح مرضاهم، الحقيقة والصدق هما جزءان أساسيان من أساس العلاقة بين الطبيب والمريض، الالتزام بالأمانة مع المرضى هو المسؤولية الأساسية للأطباء المنصوص عليها في ميثاق المهنية الطبية.

وقد وجدت إحدى الدراسات أن أكثر من 55% من الأطباء يصفون تشخيص المرض بطريقة أكثر إيجابية، وفي عام 2012، أظهرت دراسة أن ثلث الأطباء البالغ عددهم 981 طبيبًا قالوا إنه لا ينبغي بالضرورة مشاركة الأخطاء الطبية الجسيمة مع المرضى، وجدت دراسة جديدة أن 11% من الأطباء يقولون إنهم أخبروا مريضهم بشيء لم يكن صحيحًا في العام السابق، وحوالي 20 في المائة قالوا إنهم لم يكشفوا عن خطأ كامل للمريض؛ لأنهم كانوا يخشون دعوى قضائية، و34% من الأطباء الذين شملهم الاستطلاع لم "يوافقوا تمامًا" على أن الأطباء يجب أن يكشفوا عن جميع الأخطاء الطبية الجسيمة للمرضى المصابين. (فهل يعد هذا نوعًا من الكذب؟).

تختلف كذبة الطبيب عن الكذبة المعتادة، وقد تختلف من مريض لآخر، ومع ذلك فإن أي كذبة تسبب ضررًا للمريض، أو تخفي أخطاء الطبيب، أو تخفي احتيالًا، كذلك إذا أدت الكذبة إلى دواء غير مناسب أو علاج غير ضروري أو مضاعفات صحية أو إصابات فإنها تعتبر غير قانونية، كذلك أي كذبة تؤثر على قدرة المريض على إعطاء موافقته المستنيرة، وقد يكون هذا أساسًا لرفع دعوى قضائية تتعلق بسوء الممارسة الطبية.

قد يلجأ كل البشر للكذب ومنهم الأطباء (وهذا غير مقبول) فهم يكذبون بشأن ساعات العمل، وفي السجلات الطبية، وعند تحرير الفواتير أحيانًا، ويكذبون بشأن ثقتهم بأنفسهم، ويكذبون على المرضى، وعلى زملائهم الأطباء، وعلى أنفسهم، ويكذبون حتى في شهادات الوفاة (كثيرًا ما تكون السكتة القلبية سبب للوفاة)، ويكذب الطبيب عندما يقول: مرت علينا حالات كثيرة مثلها، أو يردد: كل شيء سيكون على ما يرام، أو بقوله: الحالة في تحسن، أما ثالثة الأثافي فترديده دائمًا وأبدًا: مرضاي يحتاجونني.

في بعض الأحيان يكون هناك ميل للتبسيط إلى درجة عدم قول الحقيقة، وربما التأكيد على أن كل شيء على ما يرام، وتطمين المريض بأنه لن يكون هناك ألم، وزيادة الأمل لأفراد الأسرة، كذلك تحسين الروح المعنوية في الأوقات الصعبة، أكاذيب مقبولة إلى حد ما؛ لأنها لا تسبب ضررًا، ولعل من المفارقات العجيبة عندما يعترف الطبيب بخطأ ما، فإن المريض أو عائلته عادة ما يتسامحون ونادرًا ما يقاضون.

للتذكير..

أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز بجواز الكذب على المريض بخصوص حالته الصحية إذا كان لا يتحمل التصريح، وهذا أمر زائد على مجرد الكتمان وعدم الإخبار، فجاء في فتوى رقم (6908): "يجوز الكذب عليه إذا كان الكذب ينفعه ولا يضره ولا يضر غيره، وإن أمكن أن يستعمل الطبيب والطبيبة المعاريض دون الكذب الصريح، فهو أحوط وأحسن".

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org