تزخر المملكة العربية السعودية، بصفتها مهد العرب والأرض التي شهدت مبعث كثير من الأنبياء والرسل، بالعديد من المواقع الأثرية الخالدة التي تمتاز بتاريخها العريق؛ لذلك فهي تقف شاهدة على الدور الحضاري المتميز الذي اضطلعت به هذه البلاد على مدار التاريخ الإنساني، والإسهام الفاعل الذي قامت به، وتأثيرها الكبير.
ولأن تلك المواقع شهدت وجود حضارات مزدهرة فقد كان من الطبيعي أن توجد قِطع أثرية وشواهد على وجود تلك الحضارات؛ لذلك انتشرت في جميع أنحاء السعودية المتاحف العامة والخاصة التي تشرح للعامة ما امتازت به جميع المناطق من نهضة وتقدم.
ولم يجد قطاع المتاحف والآثار خلال العقود السابقة الاهتمام الذي يستحقه، وتعرضت كثير من المواقع لإهمال متعمد بسبب قصور في رؤية البعض، وسوء تقدير لحقيقة الأمور، والزعم بأن العناية بها يتعارض مع صحيح الدين؛ وهو ما دفع كثيرًا من العلماء الأجلاء لإيضاح أن الاهتمام بتلك المواقع واستغلالها اقتصاديًّا لا يتعارض مع مبادئ الإسلام الذي يدعو أتباعه للسير في الأرض، والتدبر في سيرة الأسلاف، وأخذ العبرة والعظة من حياتهم وتجاربهم.
في هذا العهد الزاهر الذي نعيشه تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وعضيده وولي عهده الأمير محمد بن سلمان –حفظهما الله– تزايد الاهتمام بقطاع الآثار؛ باعتباره مدخلاً رئيسيًّا للتعريف بالمكانة البارزة للمملكة، والدور الكبير الذي لعبته في ازدهار الحضارة الإنسانية.
فقد أولت رؤية السعودية 2030 اهتمامًا كبيرًا بقضية الآثار والمواقع التاريخية، ووضعت تصورًا متكاملاً لكيفية استغلالها وتسخيرها بالشكل الذي يجعل منها موردًا اقتصاديًّا بالغ الأهمية، يسهم في تقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل؛ فهذا القطاع يشكل كنزًا ثمينًا، لم يتم استغلاله حتى الآن بالصورة المثلى، رغم أن ما يحتويه باطن أرضنا يمكن أن يشكل ثورة علمية، تثبت أن بلادنا هي أرض الحضارة ومهدها، ونقطة انطلاق النور إلى العالم.
ورغم هذا الاهتمام إلا أن المتاحف، العامة والخاصة، لم تقم حتى الآن بمواكبة الجهود المبذولة، ولم تلعب الدور المنتظر منها؛ ربما بسبب عدم انتشار الوعي العام بأهميتها، لكن هذه تبقى مسؤولية القائمين على هذا القطاع؛ لذلك نحن في حاجة لخطة عمل استراتيجية شاملة، تركز على الصعيدَين الداخلي والخارجي في وقت واحد.
داخليًّا من الضروري أن يتم تدشين حملة إعلامية وتسويقية واسعة وشاملة بالتزامن مع اليوم العالمي للمتاحف، تستهدف رفع الوعي الداخلي بأهمية الآثار والقطع الأثرية التي توجد لدى البعض، وإيضاح أنها ملكية عامة للدولة، والإبلاغ الفوري للجهات المختصة عند العثور على أي قطع أثرية، وحث الجميع على التعامل الأمثل مع المواقع الأثرية، وعدم الاعتداء عليها بأي شكل. كذلك ينبغي حث المواطنين والمقيمين على زيارة المتاحف، والتفاعل معها، والتعرف على محتوياتها، على أن تقوم الجهات المختصة بتجديد أساليب عرض وتقديم هذه المقتنيات النادرة للعامة بطريقة علمية شيقة وجاذبة، مع توفير المعلومات العلمية الدقيقة كافة عنها، والاستعانة بمختصين على قدر عالٍ من الكفاءة، يتولون الإجابة عن استفسارات الزوار والسياح.
وعلى الصعيد الخارجي هناك حاجة ماسة لتسليط الضوء على الرصيد الحضاري الكبير للمملكة، وتعريف العالم بما تضمه أراضي السعودية من مواقع وقطع أثرية فريدة، لا يوجد لها نظير في أي بقعة أخرى من العالم. ويمكن في هذا الصدد تنظيم زيارات منتظمة لضيوف السعودية لتلك المواقع، وإقامة ندوات ومحاضرات ومؤتمرات دولية، يُستضاف فيها مختصون من أنحاء العالم كافة، تستقطب اهتمام وسائل الإعلام العالمية؛ بما ينعكس إيجابًا على هذا المجال.
كذلك تبرز الحاجة إلى بذل جهود إضافية لتسجيل المزيد من المواقع على لائحة التراث الإنساني لليونسكو؛ فهناك بضعة مواقع سعودية مسجلة حتى الآن، هي: مدائن صالح، وحي الطريف بالدرعية، وجدة التاريخية، والرسوم الصخرية في حائل، وآبار حمى بمنطقة نجران.. وهناك جهود لتسجيل المزيد من المواقع الأخرى.
بقي أخيرًا التذكير بضرورة مضاعفة العناية بهذا القطاع الحيوي؛ لأن أهميته لا تقتصر فقط على إمكانية استغلاله بصورة اقتصادية، بل أصبح من أهم أدوات القوة الناعمة التي تعتمد عليها الدول في التعريف بتاريخها وإسهاماتها في مسيرة الحضارة الإنسانية؛ وبهذا يمكن أن نكون قد قدمنا عن بلادنا صورة حقيقية، تسهم في دفع الآخرين لزيارتها، وترقية النشاط السياحي والاستثماري.