ما زالت المعجزة الاقتصادية اليابانية لغزًا مستعصيًا حتى على المختصين؛ فكيف لبلد سُويت بنيته التحتية بالأرض بفعل القنابل النووية أن ينهض بسرعة خاطفة؛ ليتبوأ مكانة ثاني أقوى اقتصاد في العالم خلال ۲۳ عامًا ونيف؟
على الرغم من فقدانها جزءًا من بريق نهضتها في العقود المتأخرة، ما زالت اليابان ثالث أقوى قوة اقتصادية في العالم، وأول مُنتِج للسيارات والحديد والصلب، وثالث أقوى قوة في تكرير النفط، والمنتجة لنصف الإنتاج العالمي من السفن.. وغيرها من المراكز المتقدمة في شتى الميادين؛ إذ تنافس فيها بلا هوادة.
ومن بلد شحيح في موارده الطبيعية، جادت أرض الساموراي بأهم عنصر للنهضة، ألا وهو العنصر البشري، أهم ركيزة استراتيجية ارتكزت عليها لتصل إلى ما وصلت إليه من مجد وريادة. وبعيدًا عن أساليب تحليل أسباب هذه النهضة، تستعرض مقالة اليوم بعض الصفات المشتركة بين الآباء الروحيين التسعة للصناعة اليابانية الذين أسهموا بشكل رئيسي في صناعة هذه المعجزة الاقتصادية؛ لعلها تشحذ الهمم، وتعزز الثقة في نفوسنا.
أما الأقطاب الصناعيون التسعة فهم: يوشيسوكي أيكاوا مؤسس شركة نيسان، وسويتشيرو هوندا مؤسس شركة هوندا، وكيتشيرو تويودا مؤسس شركة تويوتا، وميتشيو سوزوكي مؤسس شركة سوزوكي، وتشيكوهي ناكاجيما مؤسس شركة سوبارو، وجوجيرو ماتسودا مؤسس شركة مازدا، وشوزو كاواساكي مؤسس شركة كاواساكي للصناعات الثقيلة، وتوراكوسو ياماها مؤسس شركة ياماها، وأخيرًا ياتارو إيواساكي مؤسس شركة ميتسوبيشي.
أولاً: العصامية
كما يُقال، إن الإبداع ابن شرعي للفاقة والفقر؛ فجميع المؤسسين التسعة وُلدوا لعوائل فقيرة، أو فقيرة جدًّا؛ فوالد هوندا -على سبيل المثال- كان حدادًا فقيرًا، يُصلح الدراجات الهوائية على قارعة الطريق، وأمه كانت حائكة أقمشة، وكان من فرط فقر عائلته أن خمسة من إخوانه توفوا نتيجة سوء التغذية وانعدام الأكل قبل أن يكبر الابن البار، ويؤسس إمبراطورية هوندا من كوخ متواضع. أما مؤسس ميتسوبيشي فقد عمل خادمًا لأحد الإقطاعيين، ومؤسس تويوتا عاش في كنف جدَّيْه منذ كان عمره لا يتجاوز ثلاثة أشهر؛ وذلك بعد أن سئمت أمه حياة العوز والحاجة مع أبيه، بينما كان والد مؤسس مازدا صيادًا بسيطًا، وكان الأصغر بين إخوته الاثني عشر. وفيما يخص مؤسسي ياماها وسوبارو وسوزوكي فقد وُلدوا لآباء مزارعين، وكان الأخير يساعد والدَيْه في حقول القطن حين كان عمره لا يتجاوز سبع سنوات.
ثانيًا: الولادة خارج طوكيو
لفت انتباهي أثناء مقارنتي للسِّيَر الذاتية للمؤسسين التسعة أنهم وُلدوا جميعًا في محافظات أو قرى صغيرة خارج العاصمة اليابانية طوكيو. ورغم حقيقة السردية القائلة بأن حظوظ النجاح تتعاظم في المناطق الحضرية الكبيرة إلا أن المناطق الأصغر قد تعرض -على الأقل في البدايات- فرصًا للنجاح، لا تقل عن مثيلاتها في المناطق الكبرى؛ وذلك لعدم وصولها في الأغلب لمستوى التشبع الاقتصادي، ولتميزها عادة بمنافسة أقل حدة.
ثالثًا: مهندسون أو حرفيون
جميع المؤسسين باستثناء مؤسس ميتسوبيشي احترفوا الهندسة أو الصناعة، سواء بالدراسة والعمل، أو بالعمل مباشرة. كما لوحظ على بعضهم الشغف اللامحدود لكل ما له علاقة بالآلات والمحركات الميكانيكية.
رابعًا: النهوض المتكرر بعد السقوط
غني عن القول أن هذه تعتبر إحدى أهم صفات رياديي الأعمال. ولا عجب أن المؤسسين التسعة قد أظهروا قدرًا من الجلد والصبر؛ استحقوا عليه الإجلال والتقدير. فعلى سبيل المثال: كانت عائلة إيواساكي، مؤسس ميتسوبيشي، عضوًا في طبقة النبلاء من محاربي الساموراي، ولكنهم خسروا تلك المكانة بعد أن باع جده الأكبر مكانة العائلة لتسديد الديون التي تراكمت عليها خلال مجاعة تينمي الكبرى؛ فعاش في ذل وهوان، وقضى فترة من شبابه بلا عمل، كما طُرد من قريته، وأُدخل السجن بسبب عراك. كل ذلك قبل أن يعود ويشق طريقه في التجارة الخارجية والنقل، ويعيد شراء مكانة عائلته المرموقة، ويدخل معترك السياسة، ويصعد نجمه حتى عُين وزيرًا في الحكومة.
أما هوندا فقد أسس مصنعًا لتصنيع حلقات كابس المحركات عام 1938م، ودُمّر عام 1944م إثر سقوط قنبلة أمريكية عليه أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم أعاد بناءه قبل أن يأتي عليه زلزال في العام الذي يليه؛ فيسحق المصنع مرة أخرى. باع هوندا ما تبقى من المصنع إلى شركة تويوتا، واستخدم العائد لتأسيس معهد هوندا للأبحاث التقنية عام 1946م. وفيما يخص تويودا فقد قيدت الحكومة اليابانية أنشطة شركته تويوتا بعد اندلاع الحرب اليابانية الصينية الثانية، وأجبرتها على تصنيع سيارات وشاحنات لصالح الجيش؛ وهو ما أثَّر سلبًا بشكل واسع على الشركة.
وحتى بعد أن نجت الشركة من أهوال الحرب العالمية الثانية عانت كثيرًا في الفترة التي تلتها بسبب نقص المواد الخام وقِطع الغيار، وقلة الزبائن، لدرجة أنها لم تبع إلا 197 سيارة فقط خلال خمس سنوات لإحدى فئاتها التي أطلقتها في تلك الفترة. كما كان لمؤسس مازدا نصيب من ويلات القنبلة النووية التي أُلقيت على هيروشيما؛ إذ دُمِّر المقر الرئيسي لإحدى الشركات التي يديرها، ومات بها العديد من الموظفين، إضافة إلى سبعة من المنتسبين لشركة مازدا.
كما نال كل من مؤسسَي نيسان وسوبارو نصيبهما من العثرات، فقد ألقتهما قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في السجن بعد استسلام اليابان، واتهمتهما بارتكاب جرائم حرب قبل أن يخرجا منه في وقت لاحق.
خامسًا: المرونة
غالبًا ما تتصاحب روح الريادة بالمخاطر والأزمات والتغيرات السريعة في المعطيات والظروف؛ لذا تتطلب إلى حد كبير الابتعاد عن العقلية التقليدية، والتفكير بشكل غير اعتيادي لتجاوز هذه التحديات. ومن الأمثلة على المرونة واقتناص الفرص التي أظهرها الآباء التسعة: انخراط مؤسس نيسان في تقديم الحلول التمويلية بعد الحرب بشرائه بنكًا تجاريًّا لتمويل الشركات الصغيرة.
وعندما وجد مؤسس مازدا نفسه في مأزق أمام شركة تويو كوجيو للفلين التي دُعي لإدارتها، وعانت بسبب وضعها تحت الحراسة القضائية بعد الحرب العالمية الأولى؛ لتعثرها في دفعها أموال الدائنين المستحقة من جهة، ومن جهة أخرى تفاقُم معاناتها مع تناقص الطلب على الفلين بعد انقضاء الحرب.. حينها قرر ماتسودا اتخاذ خطوة جريئة لإحياء الشركة عبر إنشاء خطوط لتصنيع الأدوات والآلات. وفي عام 1931م قدمت الشركة للسوق دراجة ثلاثية العجلات مصممة؛ لتناسب ظروف المرحلة؛ فانهالت عليها الطلبات؛ ومن هنا صبت الشركة جُل تركيزها على تطوير المحركات والمركبات.
أما هوندا فوجد نفسه عاجزًا عن قيادة سيارته إثر أزمة انقطاع البترول؛ فما كان منه إلا أن ربط دراجته الهوائية بمولد صغير، كان قد وجده في كومة من مخلفات المولدات الفائضة عنده. كان المولد يعمل على مادة الكيروسين المتوافرة آنذاك؛ الأمر الذي أعجب مَن حوله؛ فطلب منه أصدقاؤه تصميم 12 دراجة نارية لهم؛ لتشكل بذلك انطلاقة جديدة لهوندا.
ولمؤسس تويوتا قصة أخرى، فقط رأى أن الفرصة سانحة لتغيير نشاط شركة والده من شركة نسيج، تقع على حافة الإفلاس، إلى إمبراطورية لصناعة السيارات. ولأن طموحه كان الوصول للعالمية لم يتردد بالاستقلال عن شركة والده، وتغيير اسم الشركة من "تويودا" إلى "تويوتا" لتسهيل نطق الاسم، إلى جانب أسباب أخرى.
هكذا هي سِيَر غالبية العظماء في كل أمة، لا يختلفون كثيرًا عن عامة الناس.. ما يميزهم هو الفضول، والمثابرة، والتحدي، والطموح.. ولا يعرف الإحباط إليهم سبيلاً. والأهم أنهم يعرفون جيدًا أن أكبر مخاطرة تكمن في تجنُّب أخذ المخاطرة!