موقف يعكس أصالة السعوديين

انشغل الرأي العام خلال الأيام الماضية بنبأ تنازُل قبيلة "آل شثين آل معجبة يام" في نجران، وعفوها عن قاتل أحد أبنائها، بعد أن ظلت تلك القضية معلَّقة لمدة 18 عامًا، نجحت بعدها جهود الخيِّرين وأهل الصلاح، الذين لم يتوقفوا طيلة تلك المدة عن مساعيهم الطيبة الرامية لوضع حد لتلك الأزمة.

كانت لحظات مليئة بالترقب والانتظار، عندما امتلأ المكان بأعداد كبيرة من مشايخ القبائل ووجهاء المجتمع، وجموع ضخمة من المواطنين، وتناوب الجميع في إظهار الأخلاق الكريمة التي اشتُهر بها أهل المنطقة، وتباروا في الكرم والمروءة.

كانت البداية من ممثل أولياء الدم الذي أعلن أمام الملأ تنازلهم وعفوهم عن المدان لوجه الله تعالى، رافضًا قبول 105 ملايين ريال ثمنًا لهذا الموقف.

ضج المكان بأصوات التكبير والتهليل والحمد، وسالت الدموع غزيرة، وأعرب مشايخ القبائل عن شكرهم الجزيل لممثل أولياء الدم الذي التقط طرف المبادرة مرة أخرى، وناشد السلطات المختصة إطلاق سراح المدان؛ وبذلك ضرب وقبيلته أروع المُثل في العفو والتسامح، وقدَّموا نموذجًا حيًّا للنخوة والمروءة.

كانت تلك اللحظات الخالدة تأكيدًا لشهامة الإنسان السعودي، وكرم أخلاقه، ونُبله.. فهؤلاء الذين سارعوا للعفو أثبتوا أن خواطر مَن جاؤوا إليهم طلبًا للعفو أكثر قيمة من ملايين الريالات، وأن معادن الرجال تظهر في هذه المواقف الصعبة، وأن الرغبة في ما عند الله تعالى أعظم مكانة من كل أموال الدنيا.

أكثر ما لفت أنظار وسائل الإعلام العالمية هو صورة والدة المدان وهي ترفع الراية البيضاء لأولياء الدم عرفانًا بجميل فعلهم، وتعبيرًا عن الشكر والتقدير.. وتساءل كثيرون عن معنى رفع الراية؛ ومن ثم عرفوا بقية القصة، وأُعجبوا بموقف أهل القتيل وشهامتهم؛ وبذلك رسخت في دواخلهم صورة متميزة عن الإنسان السعودي، وقيمه، وأصالته.

مثل هذه المواقف الإنسانية تجذب انتباه وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم، ولاسيما في دول الغرب؛ لأنها تكون عفوية وغير مصطنعة، وتدفع الآخرين للتساؤل والبحث وزيادة المعرفة؛ لذلك فإنها تُقدِّم خدمة إعلامية هائلة لبلادنا، لا يمكن الحصول على مثلها عبر الحملات التي تقوم بها مؤسسات العلاقات العامة أو الصحف والفضائيات.. ولو أنفقنا في سبيل ذلك ملايين الدولارات.

إن كان من شكر بعد الله سبحانه وتعالى فهو لأمير المنطقة، سمو الأمير جلوي بن عبد العزيز، الذي اهتم بقضية المغالاة في الديات، وسعى كثيرًا لوضع حد لهذه الظاهرة التي تتقاطع مع تقاليد المجتمع، وترتب أعباء كثيرة على ذوي من يتورطون في جرائم قتل، حتى تمكَّن بمساعدة زعماء قبائل المنطقة وأعيانها والمهتمين بإصلاح ذات البَيْن من التوصل إلى اتفاق ملزم، وقَّع عليه الجميع، بتحديد مبلغ 5 ملايين ريال كسقف أعلى في حالات الوفاة، ومليون ريال لحالات الإصابات البليغة، ونصف مليون لبقية الإصابات.

هذا الاتفاق التاريخي جدَّد التزام المجتمع بمبادئ الإسلام السمحة، ودعوته للمغفرة والصفح والعفو عند المقدرة، وأعادنا مرة أخرى للتقاليد العربية الأصيلة، والمبادئ النبيلة للمجتمع السعودي الكريم، من مروءة وشهامة ونخوة.

لم يكتفِ سمو الأمير بمجرد التوصل للاتفاق، بل وقف وراء تنفيذه والالتزام به، واستمر في السعي للإصلاح بين الفرقاء، وظل يدعو في كل المناسبات إلى التنازل والعفو، ويجتهد في جبر الخواطر وتهدئة النفوس، بلا كلل ولا ملل؛ وبذلك اكتسب محبة الجميع الذين قدروا له مساعيه الخيِّرة، وجهوده الإنسانية.

التحية لكل من شارك في ذلك العمل الإنساني. ولا ننسى في هذا الإطار الدور الكبير الذي لعبه مشايخ القبائل الذين سخَّروا مكانتهم الاجتماعية وما يتمتعون به من مكانة لدى أفراد المجتمع لما فيه المصلحة العامة.

وهكذا هي بلادي، تُقدِّم كل يوم ما يثبت من جديد أنها مهد الحضارة، وأرض الشهامة والمروءة ومكارم الأخلاق.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org