"ومن يفعَلِ المعروفَ في غير أهلِهِ.... يلاقي كما لاقى مُجِيرُ امِّ عامِرِ"
أصل هذا المثل أنّ جماعةً من العرب خرجت للصيد، فعرضت لهم ضبعٌ، والعرب يسمّون الضبع "أم عامر"، فطاردوها، وكان الجو شديد الحر، فدخلت الضبع خباء أعرابي فرآها مجهدةً في ذلك الحر الشديد، وظن أنها قد التجأت إلى خبائه مستجيرةً به، فصاح بالقوم: ما شأنكم؟ قالوا: صيدنا وطريدتنا.
قال: إنها قد أصبحت في جواري، ولن تصلوا إليها ما ثبت قائم سيفي في يدي، فانصرف القوم، ونظر الأعرابي فرأى الضبع جائعةً، فقام إلى شاتــهِ فحلبها، وقدّم لها الماء واللبن فشربت حتى ارتدّت لها عافيتها، فلما أقبل الليــــل نام الأعرابي مرتاح البال بما صنع للضبع من الإحسان، لكن "أم عامر" نظرت إليـــه فوجدته نائماً، فوثبت عليه، وبقرت بطنه وشربت من دمه، وتركته وانصرفت.
وفي الصباح أقبل ابن عم الأعرابي يزوره فوجده قتيلاً، فاقتفى أثر الضبع حتـــى وجدها، فرماها بسهم فقتلها، ثم أنشد قصيدة مطلعها بيت الشعر المذكور أعلاه.
والسبب الذي جعلني أبدأ مقالتي بهذه القصة هو أن مغزاها لا ينطبق على العلاقات الإنسانية فحسب، وإنما على العلاقات والتحالفات وتداخل المصالح بين الدول وهي علاقات متغيرة دائمًا.
ولعبة المصالح هذه أوضح ما تكون في حال الولايات المتحدة، فقد جال الرئيس الأمريكي جو بايدن كثيرًا من دول العالم؛ لحشد دعم الحلفاء اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا لمحاصرة روسيا؛ عقابًا لها على حربها ضد أوكرانيا، وعلى الرغم من كل الإجراءات غير المسبوقة التي نفّذتها الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لخنق روسيا، ومنها مصادرة أرصدتها واستثماراتها، إلا أن من الواضح أن هذه الإجراءات البَعدية، وغير الاستباقية، لهزيمة روسيا في أوكرانيا لا تسير كما هو مخطط لها، فـ"العملية العسكرية" كما تسميها روسيا قاربت على تحقيق أهدافها، ودول العالم، وبعض الدول الحليفة للولايات المتحدة، تتفلت من الالتزام بالإملاءات الأمريكية، والصين أخذت ترفع من وتيرة تهديدها إذا ما أعلنت تايوان الاستقلال من جانب واحد، وكوريا الشمالية تواصل تحدي الولايات المتحدة وحليفتها كوريا الجنوبية، وإيران تواصل الطنين الإعلامي عسكريًا وسياسيًا.
ومع أن الساحة الأوروبية، وهي ساحة المناورة المفتوحة للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، تبدو متماسكة سياسيًا وعسكريًا إلى حد ما، إلا أنها هشة اقتصاديًا؛ لأن كثيرًا من الدول الأوروبية لا تستطيع الاستمرار في مقاطعة النفط والغاز الروسيين، مع اقتراب الشتاء الذي يتوقع أن يكون قاسيًا، ناهيك عن مؤشرات التضخم وارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة، وخطر المجاعة الذي يهدد العالم؛ بسبب أزمة القمح والحبوب.
في المقابل، تبدو منطقة الشرق الأوسط منطقة ملتهبة، فتركيا بدأت حربها ضد قوات سوريا الديمقراطية، المتحالفة مع الولايات المتحدة؛ لإنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا، وعملياتها العسكرية ما زالت متواصلة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، على الرغم من احتجاجات العراق المتكررة، والهدف المعلن لحكومة الرئيس رجب طيّب أردوغان هو محاربة الإرهاب الكردي، لكن الغايات والحسابات التركية أبعد من ذلك بكثير وهي المساومة للحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية والعسكرية والاقتصادية، فهي تشاكس الولايات المتحدة فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، على الرغم من استمرار تزويد أوكرانيا بالطائرات المسيرة، وفيما يتعلق بانضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، على أمل الحصول على طائرات إف 35 الأمريكية المقاتلة، التي أوقفتها الإدارة الأمريكية في أعقاب شراء تركيا لمنظومة صواريخ إس-400 الروسية قبل عامين بعد رفض الإدارة الأمريكية نشر بطاريات الباتريوت في تركيا.
يحدث هذا في وقت لم يتوقف فيه التوتر بين تركيا واليونان، ومع تصاعد الحديث عن الأزمة القبرصية. أما العراق، فدخل أكثر في دوامة الاضطراب السياسي المتواصل منذ الغزو الأمريكي للعراق قبل عشرين عامًا بدعوى ذرائع أسلحة الدمار الشامل ونشر "الديمقراطية" وهي الذرائع التي أوصلت العراق إلى ما هو عليه من فوضى ومحاصصة طائفية واستشراء الفساد والتخلف الاقتصادي.
أما سوريا، فأزمتها مستمرة منذ عام 2011 وهي شبه مستباحة من إيران ومليشياتها وروسيا والولايات المتحدة، بينما تسرح "إسرائيل" وتمرح في شن الغارات الجوية عليها. ولبنان يعيش أزمة اقتصادية وسياسية مفتوحة بأبعاد إقليمية ودولية وبلا حلول تلوح في الأفق.
في كل هذه الأجواء فإن "إسرائيل"، التي تُعد الولاية 51 للولايات المتحدة هي الرابح الوحيد، حتى الآن، من كل ما يجري، ما يهمنا في الأمر هو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قرر زيارة المملكة تأتي الزيارة في فترة صعبة من تاريخنا منذ اغتصاب فلسطين قبل 74 عامًا بدعم من بريطانيا والولايات المتحدة. "إسرائيل" هذه الدولة المتمردة على كل القوانين والقرارات والشرائع الدولية والإنسانية، حكومة ضعيفة تحاول تصدير أزمتها من خلال التهديد بالصدام مع إيران؛ لابتزاز الولايات المتحدة في موضوع البرنامج النووي الإيراني وبعد اقتراب "إسرائيل" من منطقة الراحة الإيرانية في أعقاب إنشاء قواعد إنذار مبكر لها في بعض الدول، وفي أجواء الأزمة مع لبنان بخصوص التنقيب عن الغاز والنفط في المياه الإقليمية اللبنانية، بالتعاون مع اليونان وهي خطوة يرى المراقبون أنها سوف تعوّض أوروبا عن النفط والغاز الروسيين.
كما تأتي الزيارة في وقت أصبحت فيه سمعة "إسرائيل" في الحضيض في أعقاب الانتهاكات المتكررة للمسجد الأقصى وزيادة التوسع الاستيطاني وانتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني ومقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة وإفلات "إسرائيل" من العقاب، على الرغم من أن هذ الصحفية كانت تحمل الجنسية الأمريكية لكن دمها عربي.
إن لعبة المصالح، ومقولة "الصديق عند الضيق" و"حك ظهري حتى أحك لك ظهرك" تبدو على أوضح ما تكون في كل ما يجري، فالدم اليهودي في أوكرانيا أصبح أرخص من الماء بعدما رفضت الحكومة الإسرائيلية نجدة الرئيس الأوكراني اليهودي فلوديمير زيلينسكي؛ لأنها بحاجة إلى السكوت الروسي عن غاراتها الجوية على الأراضي السورية.
في هذه الأجواء المضطربة، سوف يأتي الرئيس الأمريكي إلى المملكة، قبل هذه الزيارة، دار حديث كثير في الأوساط السياسية الأمريكية ووسائل الإعلام عن "تفكير" الرئيس الأمريكي للقيام بهذه الزيارة ومحاذير عدم القيام بها، وقد قيل إن سبب التردد يعود إلى موقف الإدارة الأمريكية من حقوق الإنسان! وكأن الغرب هو حامي حقوق الإنسان الوحيد، مع أنه اقترف ولا يزال ما لا يُعد ولا يحصى من الجرائم بحق شعوب العالم، وهو يكيل بمكيالين، ويقف متفرجًا عندما تُنتهك حقوق الإنسان العربي، والشواهد على ذلك كثيرة؛ ومنها ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من تطهير عرقي وقتل ميداني أمام سمع العالم الغربي "المتحضر" وبصره.
أمَا وقد تقررت الزيارة للمملكة، فإن لقيادتها الكثير لتقوله لبايدن بهذا الخصوص، ولديها ما تقوله فيما يتعلق بما يخرج علينا به بعض السياسيين الأمريكيين عن "مراجعة" العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، و"إسرائيل" التي تحظى بدعم عسكري واقتصادي وسياسي لا محدود على الرغم من فظائعها لسبب بسيط وهو الدور الوظيفي الذي تقوم به في المنطقة. في الوقت الذي لم تثبت فيه الولايات المتحدة أنها حليف استراتيجي للمملكة، وهي تتعرض لاعتداءات عصابات الحوثي والتهديدات الإيرانية ومليشياتها.
إلا أن المملكة صمدت في وجه هذه التهديدات وخرجت منها كأقوى ما تكون، وباقتصاد قوي والتفاف شعبي منقطع النظير حول قيادة المملكة التي لم تتخلّ في يوم من الأيام عن مبادئها وثوابتها، فقد كانت تستطيع أن تدعو قادة إيران لزيارتها وحل كل المشكلات العالقة، وكانت تستطيع أن تقيم علاقات مع "إسرائيل" فتكسب الرضا اليهودي والأمريكي، وهي صاحبة المبادرة العربية للسلام وحامية الحرمين الشريفين، كما أثبتت قيادة المملكة أنها صاحبة قرارها السياسي والاقتصادي المستقل عندما تعلّق الأمر بالأزمة الأوكرانية.
يأتي الرئيس الأمريكي للمملكة وهو ضيف مُرحّب به، وسوف يحظى بالاستقبال الذي يليق به، وبالتأكيد أن قيادة المملكة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين -حفظهما الله- لديهم الكثير ليقولوه للضيف الأمريكي، فنحن في المملكة أيضًا، وليس هم فقط، لدينا مصالحنا الوطنية التي لا تقبل المساومة، ونريد مراجعة العلاقات الثنائية من منظور شامل؛ لتكون علاقات متكافئة مبنية على أرضية متينة من الصدق والاحترام المتبادل بعيدًا عن المزاجية والأهواء الشخصية والحسابات السياسية الضيقة المتقلّبة.