الخرس الأسري وفقدان لغة الحوار، من أكبر المشاكل التي تواجه الأسر وتُوسع الفجوة بين أفرادها، وتتولد بدلًا منها لغة العنف والضغينة، لتدفع نحو التفكك الأسري؛ حيث يُعد غياب الحوار السبب الرئيسي لزيادة حالات الطلاق وضياع الأبناء وفشلهم وتعرضهم لكثير من المشكلات النفسية والانحرافات السلوكية والفكرية والأخلاقية.
والعلاقة بين الحوار والعنف "تبادلية"؛ بمعنى أنه كلما كان الحوار نشطًا وإيجابيًّا وصحيًّا؛ قلّت نزعات العنف، وكلما انسدت قنوات الحوار أو ضاقت أو تقلصت ازداد الميل للعنف.
وتشير الأرقام إلى أن أغلب حالات الانفصال تكون بسبب معاناة المرأة من انعدام المشاعر، وعدم تعبير الزوج عن عواطفه لها، وعدم وجود حوار يربط بينهما؛ وهو ما يطلق عليه "الطلاق العاطفي"؛ وهو من أهم مسببات ودلائل وقوع الانفصال.
أما عن غياب الحوار مع الأبناء؛ فقد كشفت الدراسات أن هناك الكثير من الأبناء لا يشاركون أسرهم تناول القضايا الهامة.
والأسرة هي المؤسسة الأولى التي ترعى بناء شخصية أفرادها من الأولاد؛ فهي التي تهيئ المناخ المناسب لهم كي يتنفس كل فرد منهم معاني الحب؛ بحيث تتم تنشئتهم في جو من الاستحسان والرضا، ومعاني الكرم والصدق، وروح المشاركة والصراحة، ومعاني العدل والإنصاف والاحترام، لتنمو شخصية الأبناء بشكل متزن.
وحتى لا يبقى الحوار الأسري مجرد شعار يتردد على الألسنة أو يدوّن في الكتب، أو يطرق في دراسات وبحوث دون تطبيق أو ممارسة واقعية؛ فإن الآباء والأمهات بحاجة لأن يتعلموا كيفية يكون التعامل مع الأولاد، وكيف يبنون حوارًا إيجابيًّا يفيد في المواقف المختلفة، ويتعرفوا على العبارات والكلمات التي تؤدي إلى تفاهم أفضل، والأسلوب الأمثل في التعامل الذي يؤدي إلى العيش بكرامة واحترام متبادل.
ثقافة غائبة
ويرجع غياب الحوار الأسري إلى أسباب عديدة، من أهمها: أسلوب تربية الوالدين وتوارث الأخطاء التربوية، ودكتاتورية البعض وحب التسلط، وانشغال الوالدين أو أحدهما عن الحاجات النفسية والتربوية للأبناء، وضعف ثقافة الوالدين أو أحدهما، وعدم إدراك الخصائص العمرية للأبناء.
كما أن الأبناء قد يكونون سببًا في "الخرس الأسري"، ويبدأ ذلك مع إحساسهم أن بيئتهم الأسرية لا تتلاءم مع مجريات العصر، وإفراطهم في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، واستبدال الصحبة والرفاق بالأسرة، والاستسلام للبعد عن الجو الأسري لأوقات كبيرة.
ويرى الدكتور جبرين علي الجبرين الأستاذ المشارك بقسم الدراسات الاجتماعية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود، أن بعض المشكلات التي تواجه الأسرة والمجتمع في وقتنا الحاضر ربما ترجع إلى افتقار بعض أفراد المجتمع إلى ثقافة الحوار والتواصل بين الوالدين وأبنائهم في وقت تزداد فيه الحاجة إلى هذا التواصل والحوار بينهم؛ خاصة في ضوء ثورة الاتصالات التي نعايشها في وقتنا الحاضر والتي تأتي مصحوبة بالكثير من المشكلات الأسرية والاجتماعية.
ويؤكد "الجبرين" أن غياب ثقافة الحوار بين أفراد الأسرة؛ من شأنه أن يعرقل الاتصال الفعال بينهم؛ مما يؤدي إلى إعاقة كاملة لوظائف الأسرة؛ لافتًا إلى أن بعض الدراسات وجدت أن أبرز مشكلات صعوبة التفاهم بين أفراد الأسرة، تتمثل في عدم وضوح الرسالة وغموضها والطريقة التي أرسلت بها للآخرين؛ في حين وجدت دراسات أخرى أن غياب حرية التعبير أو ممارسة الحوار أو المشاركة الفاعلة في حل المشكلات أو حتى إبداء الرأي الآخر أمام الكبار أيًّا كانوا؛ كان سببًا في العنف من قِبَل الطلاب تجاه المدرسين والإدارة المدرسية وضد المجتمع بأكمله، وسببًا في العناد والتمرد داخل الأسرة.
ويشير إلى أن النصوص القرآنية أوضحت أن الإسلام يعتبر الحوار قاعدة مهمة من قواعد دعوة الناس إلى الإيمان بالله وعبادته؛ مما يجعله منهجًا ثابتًا في كل القضايا التي يكون فيها خلاف بين الناس؛ {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
الطلاق العاطفي
وفي كثير من الأسر يقرر الأبوان الاستمرار في العلاقة من أجل الأبناء فقط؛ بينما تتحول الحياة بين الزوجين إلى نوع من الروتين مع غياب شبه تام للغة الحوار بين الطرفين؛ وهو ما يطلق عليه بعض الباحثين "الطلاق العاطفي".
ومن أبرز علامات الطلاق العاطفي، وجود حالة من الصمت بين الزوجين، يفشل كلاهما أو أحدهما في كسرها أو اختراقها بأي حال، والانسحاب بشكل جزئي أو كامل من مسؤوليات الحياة الزوجية.
كما أن هذه الحالة تظهر في وجود حالة من السخرية والاستهزاء واللامبالاة باهتمامات الآخر ومشاعره، والشعور بأن استمرار الحياة الزوجية من أجل الأولاد فقط، أو الخوف من خوض تجربة الطلاق وحمل لقب مطلق أو مطلقة أمام الناس، وعدم وجود إحساس بالفارق عند بُعد الزوجين عن بعضهما، أو قربهما؛ بل قد يسود لدى الزوجين حالة من الراحة عند ابتعادهما عن بعضهما.
عند وجود هذه الأعراض؛ يمكننا أن نقول إن الطلاق العاطفي واقعٌ تعيشه هذه الأسرة، ولا بد من تداركه؛ حتى لا تتسع الفجوة ويواجه الزوجان مشكلة الانفصال الكامل أو الطلاق الفعلي.
بث الروح
ولحل هذه المشكلة بين الزوجين؛ يجب أولًا اعتماد المصارحة الآنيّة كوسيلة تعامل أساسية مع أي مشكلة يشعر بها أحد الأطراف تجاه الآخر بلغة هادئة؛ مما يساعد على استمرار الحوار وحل المشكلة، وعدم ترك فترة من الخصام بعد حدوث أي مشكلة حتى لا تتراكم مشاعر الكراهية، والتخلص من مفهوم "بذلت ما في وسعي" فأغلب المشكلات تنتج من شعور الزوج أو الزوجة بأنه قدّم كل شيء؛ بينما لم يقدم الطرف الآخر أي شيء.
وعلى كلا الزوجين الاعتراف بالجوانب الإيجابية وصور العطاء لدى الطرف الآخر، وعند الشعور بتقصير الطرف الآخر، يمكن نقل السلوك الإيجابي له بالعدوى والمعايشة، بدلًا من اللوم؛ فيمكن للزوجة مثلًا أن تبدأ بترديد عبارات الحب، وتلح فيها حتى تنتقل بالتبعية للزوج بدل الشكوى من عدم تعوّده على ذلك، كما يجب عليهما بث روح التجديد للحياة الزوجية؛ خاصة مع مرور فترات طويلة على الزواج.
وعلى مستوى الأبناء؛ يجب على الوالدين بذل الجهد لإعادة الحوار بين أفراد الأسرة، عبر عدة وسائل، منها تحويل الحوار إلى ثقافة وتعامل يقدمان فيه هما دور القدوة قبل طلبها من الأبناء، وممارسة دور حقيقي في حياة الأبناء، ومشاركتهم اتخاذ القرار وحل المشكلات.
ويقع على عاتق الوالدين كذلك تثقيف الأبناء على الاستخدام الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعي، وترسيخ المبادئ الإسلامية في الحوار واحترام وتقبل الآخر، والتعامل الحسن مع الأبناء وتقبل أخطائهم وتقويمها، والثقة -غير المفرطة- في الأبناء عند استخدام وسائل التواصل، ومشاركة وتعويد الأبناء على الحوار الهادف.