جاءتني تشتكي من ولدها، فقلت: ما الخبر؟
قالت: لا يحب الدراسة ويفضل اللعب دائماً، سألتها: كيف يلعب؟ فقالت: يصنع قبعات تخرج بحلقات نهاية الشريط اللاصق، ويلبسها الدمى ثم يعمل لها مسيرة تخرج! يرتب الأغراض ترتيباً مختلفاً ويجعلها تتكلم وتحتفل فيسبب فوضى بالمكان ولا يدرس!
ليس هذا فحسب، بل احتفل بخطوبة أخته بطريقته الخاصة، فمكث يومين يعمل بصمت، فزيّن المجلس ورتب الإضاءة وصنع لها حفلاً خاصاً بها.
طفلٌ في الثامنة أبدع في رسم تفاصيلٍ لا يدركها طفل عادي، كان مبدعاً ومتميزاً بطريقته، ولكنهم لم يروا ذاك التميز، بل اعتبروه مضيعةً للوقت وفوضى تحتاج للتوقف حالاً، فكانوا دائماً ما يرددون على مسامعه "اترك عنك هالحوسة وادرس يا إبراهيم"!!
المشكلة يا أعزائي حينما نحصر الإبداع والتميز في زاويةٍ ضيقةٍ من مفهومنا المحدود عن الذكاء، فإن لمْ نرَ بوادر الذكاء والاجتهاد المعتادة سارعنا بوصف ذلك الوضع بالمشكلة!
والمشكلة الأكبر أن أمثال "إبراهيم" كثرٌ حولنا، وهكذا تضيع المواهب ويساء تقدير الموهوبين.
تذكروا يا سادة أنّ الله خلق البشر متفاضلين في شتى النواحي ليكمل بعضهم بعضاً، وينتجون نسيجاً متناغماً في الحياة، ولو تشابهت نواحي الإبداع فيهم لتشابه كل شيء في هذا العالم؛ المباني والملابس، والسيارات والأطعمة، وصارت الحياة رتيبة مملة لا تمايز فيها ولا تنوع!
ولكن الله أعلم بنا فقال في محكم تنزيله: {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، فخلقنا سبحانه شعوباً تتمايز بأشكالها ولغاتها وإنتاجها الصناعي والفكري بل حتى محصولاتها الزراعية؛ حتى يحصل التناغم والاختلاف والتعارف، وهو أساس الحياة على هذه الأرض.
صُنّف الذكاء في ثمانية أنواع حسب ما ذكره عالم النفس "هاورد جاردنر" في عام 1983، ولكل نوعٍ مجالٌ يخدم البشرية، ولكل نوعٍ سمات ظاهرة تبدأ ملامحها منذ مراحل الطفولة المبكرة، فيقرأها من يفهم، ويطورها من يعلم، ويقتلها من يجهل!
توجد تلك الذكاءات في الجميع، ولكن بنسبٍ متفاوتة، فيتمايز بعضها على بعض عند بعض الأشخاص حتى يختلف إنتاجهم وتتعدد مهاراتهم.
فإذا كان الطفل ذا اهتمامٍ بالمنطق والرياضيات وتجذبه الأرقام والحسابات، فهو يحظى بنسبة مرتفعة في "الذكاء المنطقي"، وإضافته في مجال الهندسة والبرمجة ستكون أنفع وأوقع.
وإن كان الطفل ذا اهتمام بتقليد الأصوات والألحان وتأليف المقطوعات وابتكار الإيقاعات فهو ذو "ذكاء إيقاعي"، وسيبدع كمقرئ ومجوّدٍ أو منشدٍ أو مؤدٍّ صوتي.
أما إذا كان بارع الحركة ماهراً في الرياضة أو دقيقاً في المهارات اليدوية، فهو أقرب أن يكون ذا "ذكاء حركيٍ" مرتفع، وموقعه الذي يحتاجه مستقبلاً هو الرياضة أو الجراحة، وكل ما يتطلب مهارة حركية وتآزراً بصرياً عضلياً.
أما صاحب الحس الفني المرهف والنظرة الفاحصة للألوان، ومن له رأيٌ في طريقة ترتيب المكان وتناسق الأثاث وإخراج الصورة، فهو صاحب "الذكاء البصري"، دعوه يتقن الإخراج، واتركوه يبدع اللوحات، ويصنع الجمال أينما حلّ؛ فقد خُلق له.
ومن تمكّن في اللغة وأجاد اللعب في الكلمات أو أتقن تعلم اللغات، وكتب الشعر والأبيات، فهذا صاحب "الذكاء اللغوي" وهو الصحفي الناجح والكاتب الفذ والشاعر البليغ والمتحدث البارع.
وعندما يأتي الحديث عن الطلاقة والجرأة ومعرفة قدرات النفس، فصاحبنا ذو "الذكاء الشخصي" سيكون الأول هنا؛ فهو يعرف نفسه جيداً، ويعرف ما يريد، وهو بارع في تحديد أهدافه والتخطيط لأموره.
أما صديق الجميع وصاحب العلاقات والأسرع تكويناً للصداقات، فهو قد نال أعلى نسبة من "الذكاء الاجتماعي"؛ فهو لبقٌ متحدث يعرف كيف يكسب الأشخاص، ويكوّن الصداقات، وسيتألّق مستقبلاً لو عمل مرشداً أو مستشاراً؛ لأنه يملك مفاتيح الأشخاص.
وأخيراً صاحب "الذكاء البيئي" الذي يعشق تفاصيل البيئة، وينتعش خلال وجوده بين النباتات، ويستمتع بتربية الحيوانات والتفحص في أنواعها ورعايتها، ويجد فيها جمالاً لا يفهمه غيره.
ذكاءات متعددة ونوافذ متنوعة للإبداع، قد يبرز في الشخص منها نوعٌ أو نوعان بشكلٍ واضح عن البقية.
ولكن أين تكمن المشكلة؟
عندما تنتظر الأم ابنها صاحب الذكاء البصري مثلاً ليبدع في الرياضيات فسيطول انتظارها، وقد يخيب رجاؤها؛ فقد اختارت المحطة الخاطئة للانتظار، وقد لا يصل ابنها إلى حيث تريد، بينما لو ركبت معه في الطريق الذي يختاره هو، وتابعته في مسيرته بالتشجيع والتطوير ستكون النتيجة حتماً مختلفة، وفي أغلب الظن مبهرة ومرضية لكلا الطرفين.
لا تحصروا الذكاء في الرياضيات أو العلوم أو المهارات الأكاديمية، ولا تخسروا من أجلها شخصيات أطفالكم الفذة وعلاقتكم بهم، فقد يكون طفلك عالماً تاريخياً لا يحتاج لتلك الأرقام، أو مهندساً كيميائياً لا يحتاج للألوان.
وكم من مشاهير وعظماء لم يتفوقوا في دراستهم، ولكن أبدعوا وأبهروا العالم باختراعاتهم كـ"أينشتاين" مثلاً.
وسّع نظرتك للأمور لتشمل نوع ذكاء طفلك وطبيعة شخصيته، وستتغير نظرتك لطفلك ولتقييم المشكلة، فإصرارك على حصر ما تريد من طفلك سيجعلك إما أن تكسر ذاك الشغف فيه أو تكسر شخصه، وكلا الخيارين مدمرٌ لكيانه!
لا تتوقع أن يكون ابنك نسخةً منك، ولا تتمنى أن يكون نسخةً من ابن أخيك المتفوق والأول على صفه، بل استمتع بنسخته الفريدة، والتي منحها الله لك لتكتشف خباياها ومكامن التفرد والإبداع فيها فتظهرها وتدعمها.
وأخيراً..
لا يعني ما ذكرت أن نشجّع الطفل على الإهمال الدراسي، ولكن أن نخفف الضغط على النواحي التي ليست من مجاله؛ من أجل أن نفسح لما هو أهلٌ له بالظهور والتميز.
وحتى ندع المقارنات بينه وبين إخوانه وأقرانه؛ فالإبداع ألوان والتميّز مجالات.
فدعوا عنكم القلق..
فلا جمال لمَغِيبٍ دون تدرجات الشفق!
ولا حلاوة في مقطوعةٍ كانت على نفس النسق!
@maha.hagabani