يبدو أن العلا (أقصى شمال غرب السعودية) ستمثل الوجهة السياحية المفضلة لزوار المناطق الأثرية في العالم؛ وذلك في ظل الاهتمام الكبير الذي توليه حكومة السعودية لهذا الموقع الأثري الشهير على مستوى العالم.
المحافظة ذات الجذور الضاربة في أعماق التاريخ كانت متوارية عن الأنظار قبل أن يكشف النقاب عن هذا الكنز الأثري سمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، الذي أعلن الرغبة في استثمارها؛ لتسهم مستقبلاً في إثراء الخزانة السعودية بمليارات الريالات تحقيقًا للمصلحة الاقتصادية والأهداف التي قامت عليها رؤية السعودية 2030.
انطلاقة التطوير
ومنذ أن أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان عبدالعزيز آل سعود العام الماضي إنشاء هيئة ملكية بمحافظة العلا إيذانًا ببدء عجلة التطوير تواصل وضع الخطط الاستراتيجية لتنمية المكان. واليوم دشنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا حسابها الرسمي على موقع "تويتر". وأكد محافظ الهيئة الملكية لمحافظة العلا، الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، أن محافظة العلا تمتلك مقومات تراثية وزراعية وثقافية وحضارية وطبيعية، ستضعها على خارطة السياحة العالمية.
عمق تاريخي
ومنذ القِدَم مثلت العلا نقطة التقاء بين حضارات الشرق الأدنى القديم، وحاضرة التجارة القديمة، نظرًا لوقوعها آنذاك على طريق البخور والتوابل، وخضعت لسيطرة المعينيين حتى القرن الثاني الميلادي إلى حين مجيء الأنباط.
ويحرص السياح والزوار على زيارة خمسة أماكن مميزة، تشتهر بها محافظة العلا شمال المدينة المنورة، تتمثل في دار الحجر (مدائن صالح)، ومنتزه الحرة، والبلدة القديمة، والخريبة (مقابر الأسود)، وجبل الفيل. وفي حزيران / يونيو 2008 تم تسجيل موقع الحجر في قائمة التراث العالمي باليونسكو، وهو أول موقع يسجل للمملكة العربية السعودية. وبحسب الهيئة العامة للسياحة والآثار، فإن ذلك يأتي من منطلق عناية السعودية بالمحافظة على تراثها الثقافي، وإتاحة الفرصة للجميع للتعرف إليه.
كنز أثري
ولعل ما يميز هذا الكنز الأثري وقوعها بالقرب من مدينة المستقبل "نيوم"، ومشروع البحر الأحمر، الذي سيتيح للسياح مستقبلاً الوصول إليها سريعًا، وبأسهل الطرق؛ إذ تمثل سياحة الآثار موردًا مهمًّا للغاية. ويؤكد ذلك أن زوار البتراء بالأردن بلغوا نحو 4.8 مليون زائر خلال العام الماضي، في حين سجلت سياحة الأهرام في مصر قرابة 14 مليون سائح في عام واحد فقط.
تاريخ العلا
وتعتبر دار الحجر أشهر مَعْلم أثري وتاريخي تشتهر به محافظة العلا، واشتهرت بـ (مدائن صالح)، وتقع في شمال غربي المملكة العربية السعودية بين المدينة المنورة وتبوك على بعد 22 كم شمال محافظة العلا. وتتوافر في الحجر كل مقومات الاستيطان من مياه وتربة خصبة، وموقع مهم على الطرق المؤدية إلى المراكز الحضارية الكبرى في الشرق الأدنى القديم؛ لذا وُجدت آثار منذ الفترة ما قبل التاريخ، ممثلة في الرسوم الصخرية والرجوم الركامية. كما تنوعت في الحجر النقوش الكتابية بين العربية الجنوبية واللحيانية والثمودية والنبطية واللاتينية والإسلامية في مضامين تذكارية وتأسيسية ودينية ونقوش ملكية، وهي الأكثر وجودًا في الموقع الذي بلغ أوج ازدهاره خلال العصر النبطي.
ويمكن تصنيف الآثار الباقية بموقع الحجر إلى ثمانية أنواع، هي: واجهات المدافن المنحوتة، المنطقة الدينية، المنطقة السكنية، الآبار والقنوات المائية، آثار طريق الحج الشامي، آثار سكة حديد الحجاز، آثار قرية الحجر والمدافن الركامية على رؤوس الجبال.
حضارة الأنباط
وسكن الأنباط الحجر بدءًا من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الثاني الميلادي.
طريق التجارة القديم
تحتل الحجر موقعًا استراتيجيًّا على طريق التجارة القديم (طريق البخور)، الذي ربط جنوبي الجزيرة العربية بشماليها، وبالمراكز الحضارية في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر. والأنباط قبائل عربية، عاش أفرادها حياة البداوة وحرفة الرعي في بادئ الأمر، ثم تحضروا واستوطنوا المدن، واتخذوا التجارة حرفة لهم، وأصبحوا خبراء في استنباط المياه ومعرفة مكامنها، وتجميعها عبر قنوات في صهاريج واسعة وعميقة.
واستقر الأنباط في بلاد الشام، وأسسوا مملكة عربية، سُميت (مملكة الأنباط)، واتخذوا البتراء عاصمة لهم، وكانت الحجر تمثل عاصمتهم الثانية، وقاعدتهم الاستراتيجية على حدود مملكتهم الجنوبية. وكانت لغتهم عربية شمالية، من حيث المفردات والأسماء، واستخدموا القلم الآرامي في كتاباتهم وطوروه، وربطوا بين الحروف.
التنوع البيئي
وتتميز منطقة العلا بتكويناتها الصخرية الرائعة المتمثلة في الجبال الحجرية الرملية ذات الألوان الوردية. وتزيد الموقع جمالاً الكثبان الرملية ذات الألوان الذهبية التي تحف بجبال الحجر من جميع الجهات. وتبلغ مكونات الموقع - وفقًا لتقرير منشور في مجلة الرجل - قرابة 1621 هكتارًا.
المنطقة السكنية
وتقع في السهل الذي يتوسط الموقع، ويحيط بها سور لا تزال آثاره باقية في الجهات الشمالية والغربية والجنوبية. وتم التعرف إلى حدودها من خلال الأعمال الميدانية التي نُفذت بالموقع.
نظام الدفن عند الأنباط
عادة ما تكون المقابر النبطية عائلية، تخص الأسرة بأكملها، ومَن يليها من أبنائها. وقد أفادت النقوش التي دونت على واجهات المقابر بمعلومات عن طقوس الدفن عند الأنباط؛ إذ حددت ملكية المقبرة والأشخاص الذين يحق لهم الدفن فيها، والمكان الذي يمكن أن يدفنوا فيه، والغرامات واللعنات التي يمكن أن تلحق بمن يخالف ما جاء في هذه النصوص.
الكتابات والنقوش
تنوعت الكتابات التي وُجدت في الحجر بين العربية الجنوبية، واللحيانية، والثمودية، والنبطية، واللاتينية والإسلامية.. كما تنوعت موضوعات هذه النقوش بين التذكارية، التأسيسية، الدينية ونقوش ملكية، وهي الأكثر وجودًا في الموقع.
البلدة القديمة
وهي أطلال نحو 800 منزل، تنتشر حول قلعة مرتفعة بمواجهة المزارع التي روتها 34 ينبوعًا، جف معظمها. وترتفع البلدة القديمة 70 مترًا عن سطح البحر، وهي أرض خصبة وصالحة للزراعة، يسمح مناخها بزراعة النخيل والحمضيات والمانجو أيضًا. وقد وُجد في النقوش القديمة أن المنطقة كانت تشتهر بزراعة القطن كذلك. ويستخدم سكانها المزولة أو "الطنطورة" باللهجة العامية للأهالي؛ لمعرفة الفصول الأربعة، وتنظيم عملية الري. وتتوسط البلدة القديمة قلعة موسى بن نصير التي تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، وهي مبنى من الحجر المشذب المقام على رأس هضبة صغيرة.
آثار الخريبة
وهناك أيضًا أطلال مدينة دادان القديمة ومملكة لحيان التي أعقبتها في حكم المنطقة. ودادان الاسم القديم لواحة العلا أيضًا. وبرزت سيادة دادان على المنطقة خلال القرن السابع قبل الميلاد، وامتد نفوذها إلى كثير من المواقع المجاورة. فيما امتد نفوذ مملكة لحيان من القرن السادس إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وتشتهر الخريبة كذلك بمواقع الأسود الأربعة؛ إذ كان الأسد يمثل رمز القوة والمنعة في ثقافة العالم القديم في مختلف الحضارات. ووُجدت منحوتات للأسود في الخريبة، أبرزها نحت الأسد الذي عثر عليه عام 1914، ونحت اللبؤة التي ترضع وليدها، إضافة إلى الأسود الأربعة التي تعلو مقبرتين جنوب موقع الخريبة. ويوجد كذلك محلب الناقة، وهو حوض دائري الشكل منحوت بالصخر، عُرف محليًّا باسم محلب الناقة.
تحريك الاقتصاد
هذه المقومات الطبيعية التي يندر أن تجتمع في بقعة جغرافية محدودة ستمثل بالتأكيد موردًا اقتصاديًّا غير عادي، وستسهم في تحريك الحركة السياحية، وسيعود ذلك بالنفع على خزانة السعودية التي تسعى القيادة إلى أن لا تبقى أسيرة لأهواء برميل النفط الذي يتذبذب سعره صعودًا وهبوطًا؛ ما سبب العديد من الإشكالات للخزانة السعودية.