
أكد الدكتور محمد السلمي أن الواقع الدولي الراهن يشهد أجواء مماثلة لأجواء اندلاع الحرب الباردة بين النظام الدولي الثنائي القطبية "الرأسمالي ممثلًا في الولايات المتحدة والاشتراكي ممثلًا في الاتحاد السوفيتي السابق"، ولكن الحرب الجديدة تندلع بين واشنطن وبكين.
وقال "السلمي" في مقال نشرته "عرب نيوز" : تقود الحرب الباردة، هذه المرة، إلى حالة من الانهيار بين قوتين من كبريات القوى الدولية المؤثرة في مجريات الشؤون الدولية وهيكل الاقتصاد الدولي والقضايا العالمية العابرة للحدود، بامتلاكهما أول وثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهما الولايات المتحدة المتربعة على عرش النظام الدولي أحادي القطبية، والصين الشعبية الصاعدة في سلم العلاقات الدولية وأبرز الأقطاب المرشحة ضمن أقطاب أوروبية وآسيوية لقيادة النظام الدولي المتعدد الأقطاب مستقبلًا بحكم امتلاكها من المقدرات مما يؤهلها لتتبوأ هذه المكانة دوليًا.
وأضاف: في مسعى أمريكيّ بغية خفض التوتر الأمريكي-الصيني في مرحلة مفعمة بالغموض والضبابية وَفق رؤية بعض المختصين استبعد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في 11 نوفمبر 2018 "اندلاع حرب باردة بين أكبر قوتين اقتصاديتين"، متجاهلًا توصيف الصين في "استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في ديسمبر 2017" بالقوة الدولية المنافسة للنفوذ والمصالح الأمريكية ومحاولتها بالتحالف مع الروس تقويض الأمن القومي الأمريكي وهو ما شجبته سلطات بكين ووصفته باستمرارية بـِ "عقلية الحرب الباردة"؛ بهدف استمرارية الهيمنة الأمريكية وقيادة النظام الدولي بشكل منفرد.
وأردف "السلمي": تصاعدت حدة العلاقة التي يصفها المراقبون بالحرب التجارية "الأمريكية- الصينية"، التي أعادت أجواء الحرب الباردة من جديد في النظام الدولي بفرض إدارة ترامب الرسوم على الواردات الصينية، وردّ سلطات بكين بتنفيذ إجراءات انتقامية مماثلة بفرضها رسومًا فورية على الواردات الأمريكية، ورفض واشنطن منح تأشيرات دخول لبعض العلماء الصينيين لأراضيها، وقرار الصين طرد السفن الحربية الأمريكية لدخولها 12 ميلًا بحرًيا داخل المياه الإقليمية لأرخبيل نانشا الصيني، ثم اتهامات مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي مطلع أكتوبر 2018 لبكين بتدخلها في انتخابات التجديد النصفي ضد حزب الرئيس "ترامب".
وتابع: رغم التشكيك في قدرة الصين على ممارسة دور أكبر في الشؤون والقضايا الدولية، والتقليل من فرص تحولها إلى قطب دولي مناوئ للولايات المتحدة نظرًا لاحتلال الهند الأولوية الأولى في السياسات الخارجية الصينية بتصاعد معدل الصراع "الهندي-الصيني"؛ لتعقُّد القضايا الخلافية وتباين السياسات الإقليمية والدولية وانضمام كل دولة لتحالف دولي مغاير للتحالف المعادي.
وقال "السلمي" في مقاله: لو افترضنا جدلًا أن المؤشرات الراهنة على اندلاع حرب باردة "أمريكية- صينية" دقيقة، وأنّ النظام الدولي سيشهد حالة من الاستقطاب الشديد للوحدات الدولية الكبرى والصغرى على غرار حالة الاستقطاب الثنائي القطبية الجامد والمرن الذي عرفه العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة، ويتبادر إلى الذهن عدة تساؤلات من قبيل: ما هو موقف القوى المؤثرة في الشؤون والقضايا في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقارة الإفريقية من هذه الحرب الباردة الوشيكة؟
وأضاف متسائلاً: هل ستبقى هذه الفواعل على تحالفاتها التقليدية مع الولايات المتحدة في ظل تذمر بعض قياداتها من السياسات الأمريكية تجاه بعض القضايا العربية كالقضية الفلسطينية، والموقف الأمريكي من دعم بعض الدول للتنظيمات والعمليات الإرهابية في المنطقة وغيرها من القضايا التي تستوجب سلوكًا أمريكياً قويًا لحسمها؟ وما الخِيارات الأمريكية للتصدي للقوة الصينية المتسارعة في ظل امتلاك الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم، وتدشينها بنك الاستثمار الآسيوي "AIIB" للاستثمار في البنية التحتية في آسيا وإفريقيا برأس مال ضخم ينافس أدوار صندوق النقد والبنك الدوليين، وإغراق الأسواق الدولية بمنتجاتها كل حسب اقتصاده، وسعيها للسيطرة على الجزء الأكبر من التجارة الدولية من خلال البدء في المشروع الاقتصادي العابر للقارات "الحزام والطريق One Belt.. One Road" لإعادة إحياء طريق الحرير البري والبحري.
وأردف: على ما يبدو للوهلة الأولى استنادًا إلى الواقع الدولي الراهن وصراعاته المعقدة، أنه إذا لم تُحلّ الحرب الباردة "الأمريكية- الصينية"، فإنّنا سنكون أمام حالة استقطاب حادة لأكثر عدد من الدول الكبرى والصغرى في آسيا وإفريقيا وأوروبا؛ ممّا قد يدفع تلك الدول نحو التفكير لإعادة ترتيب أولوياتها وحساباتها واستراتيجياتها وحلفائها من جديد.
وتابع: لم يكن التفكير في تغيّر التحالفات مع الولايات المتحدة ببعيد في هذه الحالة ممّا قد يملي على واشنطن إعادة حساباتها بشكل كبير حول ما ينبغي تقديمه للحلفاء التقليديين والمؤثرين في منطقة الشرق الأوسط للإبقاء على التحالف معها لمواجهة القوة الصينية؛ لأن النظام الدولي سواء الثنائي القطبية أو المتعدد الأقطاب عادةً ما يتيح مساحة أكبر للتحرك أمام الوحدات الدولية الكبرى والصغرى.
وقال "السلمي": إن نظرة ولو سريعة على السياسة الصينية في وقتنا الراهن سترتكز على "سياسة الزحف عالميًا" و"سياسة حسن الجوار إقليميا"، وفي ضوء توجهاتها سعت بكين لتعميق قنوات التواصل مع الدول الإفريقية والآسيوية والأوروبية والعربية على أساس براجماتي، فعلى سبيل المثال لو نظرنا للعلاقات "الصينية- الإفريقية" سنجد أن بكين قدمت الحزم التمويلية لدول القارة في شكل منح وقروض واستثمارات.
وأضاف: خلال الاجتماع الأخير لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي «فوكاك» في سبتمبر 2018، أعلنت القيادة الصينية تقديم تمويلٍ بقيمة 60 مليار دولار لإفريقيا، مع تزويدها القارة بمئات الفرق الطبية "دبلوماسية الصحة" والمهندسين والفنيين وغيرهم، حتى أصبح هناك ما يشبه "China town" في العديد من العواصم والمدن الإفريقية.
وأردف: أكد أحد الباحثين الأفارقة أثناء المشاركة في أحد المؤتمرات "أن القارة السمراء تتحول سريعاً إلى القارة الصفراء" في إشارة إلى كثرة الصينيين في القارة وتزايد أعدادهم.
وتابع: الاستراتيجية الصينية القائمة على الانتشار الهادئ والدبلوماسية الناعمة من المرجح أن تسهم في الترويج للقيم الصينية عالميًا، ممّا قد يؤدي إلى قبول تدريجي وبطيء للتواجد الصيني، وإن كان ذلك يرتبط بحجم ما تعتزم الصين إنفاقه في هذا الشأن، وبمدى فعالية "سياسة التطويق الأمريكية" تجاه المارد الصيني الذي يعطي أولويةً لانتقال النظام الدولي من الأحادية القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، وهذا يفقد الولايات المتحدة موقعها على قمة هرم النظام الدولي وهيمنتها العالمية المنفردة، ويفسح المجال أمام بروز أقطاب منافسة ومؤثرة في الشؤون الدولية.
وقال "السلمي" في المقال: الخلاصة هي أن ارتفاع معدل الصدام "الأمريكي- الصيني" تجاه عدة قضايا عالمية يشكل تجليات للتنافس الحاد بين قوتين عالميتين إحداهما: قوة عالمية صاعدة بحكم تنامي قدراتها المادية وغير المادية، والأخرى: قوة دولية مهيمنة تتحالف مع قوى دولية صاعدة جديدة تزاحمها على قيادة النظام الدولي.
وأضاف: يعيش العالم حالة من التقلبات وإعادة التموضع لعدد من الدول وتراجع دور البعض مقابل صعود دول أخرى، كما أن الحالة الشعبوية populism واليمينية المتطرفة التي اجتاحت الكثير من الدول الغربية قد تسهم بشكل أو بآخر في الانجذاب نحو التجربة الصينية خاصة والشرقية عامة، لكن ذلك سيستغرق الكثير من الوقت والجهد من ناحية الجبهة الشرقية.