تُعدّ الصحة النفسية ركنًا أساسيًّا لرفاهية الأفراد وإنتاجيتهم، خاصة في بيئات العمل التي تزداد فيها الضغوط والتحديات. وقد لوحظ في السنوات الأخيرة تصاعد معدلات القلق والاكتئاب بين الموظفين؛ مما يعكس واقعًا مقلقًا يتطلّب اهتمامًا فوريًّا من المؤسسات.
ووفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية: فإن أكثر من 300 مليون شخص حول العالم يعانون من الاكتئاب؛ مما يساهم في إعاقة الأداء المهني ويؤثر على الاقتصاد العالمي.
ومع حلول اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يُصادف "العاشر" من أكتوبر من كل عام، تبرز الحاجة الملحّة لتعزيز الوعي حول قضايا الصحة النفسية في العمل، وتبني استراتيجيات فعالة لتحسين بيئة العمل. يتطلّب ذلك تضافر جهود القادة والموظفين لوضع حلول تضمن توفير الدعم النفسي المناسب، وتعزيز التواصل الإيجابي، وإيجاد توازن صحي بين الحياة الشخصية والمهنية في ظل هذه التحديات. كما يجب تبنّي ممارسات تدعم الصحة النفسية في كل مكان؛ لتوفير بيئة عمل إيجابية ومستدامة للجميع.
سجلت عدة شركات عالمية قصص نجاح في تحسين الصحة النفسية في بيئة العمل؛ فقد قدّمت شركة "قوقل" برامج شاملة تضمنت خدمات استشارية وورش عمل لتعزيز الرفاهية النفسية، إضافة إلى مراكز الدعم الصحي داخل المكاتب؛ مما أسفر عن زيادة ملحوظة في رضا الموظفين. ومن الشركات الأخرى التي نجحت في هذا المجال: "آبل، زابوس، نايكي، BP، أمازون، فيسبوك، مايكروسوفت، Airbnb"، وغيرها.
وأشارت الدراسات إلى أن 1 من كل 5 موظفين يعاني من مشاكل نفسية. وتؤكد الأبحاثُ الدورَ الحيوي للصحة النفسية في تعزيز الإنتاجية والرفاهية في أماكن العمل، بالإضافة إلى ذلك أوضحت منظمة الصحة العالمية في تقرير سابق أنّ الاكتئاب والقلق يُعدّان من الأسباب الرئيسية للإعاقة حول العالم؛ حيث تكلف هذه المشاكل الاقتصادية أكثر من 1 تريليون دولار سنويًّا في الإنتاجية المفقودة.
الخبيرة في جودة الحياة الوظيفية والصحة النفسية ببيئة العمل، الاستشارية النفسية "عهود بنت سعد الشلهوب"؛ أكدت لـ"سبق" أهمية بيئة العمل التي تنشأ من أولوية الصحة النفسية وتستحقّ وقفة جدية من الجميع، أفرادًا ووزارات وقطاعات وشركات.
وأوضحت أن تجاهل الصحة النفسية في بيئة العمل قد يؤدّي إلى مخاطر جسيمة؛ منها: الإرهاق النفسي، والاحتراق الوظيفي، والاكتئاب المقنع، والقلق والتوتر، وكل ذلك يمنع الموظف من التمتع بحياته. وأضافت: أن 63% من الموظفين في بيئات العمل عالية الضغط يواجهون مستويات مرتفعة من الإرهاق البدني والعقلي والنفسي؛ مما يؤدي إلى زيادة معدلات الغياب، والتسرب الوظيفي، وفقدان الشغف للعمل.
وذكرت "الشلهوب" أن دراسة أكدت أن أولئك الذين يعانون من صعوبة في التكيف مع بيئات العمل السامة قد يسجلون غيابًا أكبر بمعدل يصل إلى 6.8 أيام سنويًّا مقارنة بزملائهم. وأشارت إلى أن 70% من الموظفين الذين يعانون من الاكتئاب تطورت لديهم مشاكل صحية مزمنة، كما أن 38% من الموظفين يشعرون بعدم وجود دعم كافٍ من زملائهم أو مديريهم؛ مما يؤدي إلى تدهور العلاقات والتواصل الداخلي في العمل.
وأضافت خبيرة الصحة النفسية: أن تعزيز استراتيجيات فعالة لدعم صحة الموظفين يتطلّب دعم الدورات التدريبية لمقاومة الضغوط والتعامل مع الأزمات. من أهم هذه الاستراتيجيات توفير عيادات لجودة الحياة الوظيفية التي تقدم برامج الدعم النفسي واستشارات وورش عمل. وذكرت أن 87% من الموظفين يفضلون بيئات عمل تقدم دعمًا نفسيًّا فعالًا.
كما أوصت بضرورة تطوير ثقافة العمل الجماعي والتواصل الفعّال بين الموظفين؛ حيث أظهرت بيانات أن 56% من الموظفين يشعرون بأن ثقافة العمل تؤثّر بشكل مباشر على صحتهم النفسية.
وأكدت أهمية توفير خيارات مرنة في ساعات العمل؛ حيث أوضحت الأبحاث أن 75% من الموظفين يفضّلون نظام العمل المرن لتحقيق توازن أفضل بين الحياة والعمل.
واختتمت "الشلهوب" حديثها قائلة: "تعتبر الصحة النفسية جزءًا لا يتجزأ من النجاح المهني، والشركات التي تستثمر في رفاهية موظفيها لا تحقّق فقط بيئة عمل أكثر سعادة، بل تزيد من إنتاجيتها أيضًا. على القادة أن يدركوا أهمية الالتزام بهذا الأمر، وأن يشعر الموظفون بتقدير صحتهم النفسية. يجب على المؤسسات تبنّي استراتيجيات لدعم الصحة النفسية مثل توفير برامج الاستشارة وورش العمل؛ لأن تحسين الصحة النفسية ليس مجرد واجب أخلاقي، بل استثمار حقيقي".
وأشارت إلى أهمية الاحتفال باليوم العالمي للصحة النفسية باعتباره فرصةً جوهرية لرفع الوعي وتسليط الضوء على قضايا الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق، وكيف تؤثّر هذه القضايا على الأداء الشخصي والمهني، بالإضافة لتعزيز الدعم المؤسسي الذي يُظهر التزام المؤسسات برفاهية موظفيها من خلال تقديم برامج دعم نفسي؛ مما يساعد في تقليل الوصمة الاجتماعية المرتبطة بهذه القضايا.
وختمت "الخبيرةُ" حديثَها: يُشجع اليوم العالمي على الحوار وعلى التواصل بين الموظفين والإدارة حول القضايا النفسية؛ مما يسهم في خلق بيئة عمل أكثر دعمًا، كما يوفّر منصة لتقديم استراتيجيات عملية لتحسين الصحة النفسية، مثل تنظيم ورش العمل والدورات التدريبية، بالإضافة لمساهمته ومساعدته على بناء ثقافة عمل تعزّز من صحة الموظفين النفسية؛ مما ينعكس إيجابًا على الأداء العام.