شاهدنا كثيرًا لاعبي كرة القدم وهم يتسبّبون في ضربات جزاء في اللحظات الأخيرة من مباريات قوية، وقعوا فيها تحت ضغوط شديدة، والسبب وراء ذلك كشفتْه دراسة إيطالية، أكّدت أنّ الإرهاق الذهني المستمرّ الذي يتعرّض له الشخص، يدفعه إلى سلوك عدواني، كما يصبح غير متعاون؛ بسبب تغيرات تحدث في القشرة الجبهية للدماغ.
وحسب تقرير على موقع "نيورو ساينس" المتخصص بعلم الأعصاب: فإن الدراسة أجراها باحثون في كلية "أي إم تي - IMT" للدراسات المتقدمة في مدينة لوكا الإيطالية، ونُشرت نتائجها في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم.
تبدأ الدراسة من مفهوم "استنزاف الأنا" في علم النفس، والتي تعني أنّ ضبط النفس أو قوة الإرادة يحتاج إلى قوة عقلية واعية، وفي حالة الإرهاق يضعف النشاط العقلي، فتضعف قوة الإرادة ويصعب السيطرة على النفس وأفعالها، وهو ما يعني "استنزاف الأنا".
وتحاول الدراسةُ تقديمَ تفسير علم الأعصاب لظاهرة "استنزاف الأنا"؛ حيث يمكن أن يؤدي الإرهاق العقلي المطول إلى ضعف مناطق الدماغ المسؤولة عن قدرة الفرد على ضبط النفس، ويتسبب في تصرف الناس بشكل أكثر عدوانية.
وحسب الدراسة: فإن منطقة القشرة الجبهية للدماغ هي منطقة اتّخاذ القرار، وفي لحظات الإرهاق تحدث تغييرات هذه المنطقة، ويحدث لها ما يُعرَف بـ"النوم الموضعي"؛ وهو ظاهرة عصبية تحدث حين يدخل نشاط الدماغ للشخص المستيقظ في حالة تشبه إلى حدّ كبير حالة النوم؛ ممّا يُفقد هذا الشخصَ السيطرةَ على قراراته وأفعاله، كما يحدث عند لاعب كرة القدم المرهق ويجعله يعرقل منافسه في منطقة الجزاء في الدقيقة الأخيرة، وهو قرار ضدّ مصلحة اللاعب والفريق.
تقول "إيريكا أوردالي" زميلة الأبحاث في مدرسة "IMT"، والمؤلفة الأولى للدراسة: "كانت فرضيتنا الأولية هي أنّ النوم الموضعي هو المظهر العصبي لظاهرة استنزاف الأنا المعروفة في علم النفس".
وتضيف "أوردالي": تُظهر دراستنا أن الإرهاق العقلي له تأثير قابل للقياس على السلوك، وعندما يبدأ التعب بدرجة معينة يصبح الناس أكثر عرضة للتصرف بطريقة عدائية".
لاختبار فرضية أن النوم الموضوعي هو المظهر العصبي لظاهرة استنزاف الأنا في علم النفس؛ أخضع الباحثون مجموعةً من "44 فردًا" لبعض المهام المرهقة التي استمرّت لمدة ساعة كاملة، وبعدها انضمّت مجموعة أخرى من "44 فردًا"، لم تتعرض للإرهاق، إلى التجربة، ولعب أفرادُ الفريقين ألعابًا اقتصادية مخصّصة لقياس القدرات العقلية أثناء اللعب، ومن بينها لعبة يطلق عليها "الصقر والحمامة"، وفي هذه اللعبة يتمّ تقاسم الموارد المحدودة في بيئة معادية، مع وجود خيار للأشخاص بين السلوك التعاوني أو المتسلّط، والذي قد يؤدّي إلى فقدان الموارد لكلا الطرفين.
وأثبتت التجربة أن الأفراد الذين خضعوا للإرهاق والضغوط كانوا أقلّ تعاونًا وأكثر عدائية بشكل ملحوظ؛ حيث كان معدل التعاون السلمي بين المجموعة "المستريحة" 86 في المئة، لكن التعاون انخفض إلى 41% في المجموعة المرهقة.
وقد خضع جميع المشاركين في الدراسة لتخطيط كهربية الدماغ أثناء أداء الألعاب الاقتصادية، وكشف فحص تخطيط كهربية الدماغ أنّ الأفراد المتعبين أظهروا نشاطًا دماغيًّا يشبه النوم حتى أثناء اليقظة، وهو ما يؤكّد أن الإرهاق العقلي قد يؤدّي إلى اتخاذ قرارات تتعارض مع مصالح الفرد؛ مما يؤثر على كل شيء من التفاعلات الشخصية إلى المفاوضات عالية المخاطر.
وتقول "أوردالي": "تظهر دراستنا أن التعب العقلي له تأثير ملموس على السلوك، وعندما يصل التعب إلى درجة معينة يصبح الناسُ أكثرَ عرضةً للتصرف بطريقة عدائية".
يقول "بييترو بييتريني" المؤلف المشارك في الدراسة: "توفر هذه النتائجُ أسسًا علمية للحكمة الشعبية التي تؤكد أن الشخص عليه التفكير في المشكلة ثم "النوم لوقت كافٍ" قبل اتخاذ القرار، بشأن مشكلته.
يقول "بيتيريني": "بشكل عام، هذه النتائج لها آثار مهمة على مواقف متعددة في الحياة اليومية، بما في ذلك المعاملات الاقتصادية والاتفاقيات القانونية؛ لأنها تثبت أنه عندما يكون الدماغ "مرهقًا" فقد نتخذ خيارات تتعارض حتى مع مصلحتنا الخاصة.