

لا يزال مدفع رمضان عالقا في أذهان المسلمين في أصقاع العالم العربي والإسلامي، وبقي موروثا اجتماعيا يذكرهم بالماضي العريق والأيام الجميلة إلا أنه مع مر السنين والأيام توقف عن العمل في كثير من البلدان العربية والإسلامية.
"سبق" تستعرض خلال السطور القادمة حقيقة مدفع الإفطار وتأريخه منذ عرفه العالم الإسلامي وحتى اندثار العمل به في الأعوام الأخيرة، معرجة على حكم استخدامه.
مدفع رمضان
مدفع رمضان هو مدفع يستخدم كإعلان عن موعد الإفطار وإخبار العامة عن هذا الموعد، وهو تقليد متبع في العديد من الدول الإسلامية، بحيث يتم إطلاق قذيفة مدفعية صوتية لحظة مغيب الشمس، معلنًا فك الصوم خلال شهر رمضان.
أول المستخدمين
في العصور الأولى للإسلام كان الأذان هو الوسيلة الوحيدة للإعلان عن الافطار أو الامساك في شهر رمضان، وكان يوجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أذانان قبيل الفجر أحدهما للتنبيه للاستعداد للسحور وقيام الليل والثاني للإمساك عن المفطرات والإعلام بدخول وقت صلاة الفجر، وربما لم تكن الحاجة داعية لاستخدام وسيلة أخرى لصغر المدن ومحدوديتها آنذاك، وبعد اتساع المدن وتباعد المساجد تم استخدم المدفع في الإعلان عن وقت الإفطار والإمساك في رمضان.
واتفقت الروايات أن أول مدينة استخدم فيها المدفع في الإعلان عن وقت الفطر والإمساك في رمضان أنها مدينة القاهرة، ولكن اختلفت الروايات في تاريخ استخدامه وأول من استخدمه من القادة والولاة.
انتشاره في محافظات مصر
انطلق أول مدفع للإعلان عن الإفطار والصيام في القاهرة، ولكنه توقف عن عمله لفترة، وأصبح الناس يفطرون على صوته المسجل في الإذاعة فقط، إلا أنه عاد مرة أخرى بناء على أوامر وزير الداخلية آنذاك أحمد رشدي الذي أمر بتشغيله ثانية، ومن المكان نفسه فوق سطح القلعة، طوال أيام شهر رمضان وخلال أيام عيد الفطر أيضاً.
ثم اعترضت هيئة الآثار المصرية على موقع المدفع؛ بحجة أن المدفع يهز جدران القلعة والمسجد والمتاحف الموجودة في المكان، فوافقت وزارة الداخلية على نقله مرة أخرى من القلعة إلى جبل المقطم القريب أعلى القاهرة، مما يتيح لكل أبناء العاصمة الكبيرة سماعه.
ثم انتقلت هذه العادة بإطلاق مدفع رمضان إلى الكثير من محافظات مصر؛ لأنها تضفي البهجة على هذا الشهر الكريم، ويخصص لكل مدفع مجموعة من صف الضباط الأكفاء؛ حتى لا تتقدم أو تتأخر الأوقات، ويكون ذلك تحت إشراف الجهات الأمنية.
انتشاره في بقية الدول
بدأت فكرة مدفع رمضان تنتشر من مصر إلى الدول العربية والاسلامية، إذ انتشرت في أقطار الشام بداية بالقدس ودمشق ومدن الشام الأخرى، ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وبعدها انتقل إلى مدينة الكويت، حيث جاء أول مدفع للكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح، وذلك عام 1907م، ثم انتقل إلى كافة أقطار الخليج، وكذلك اليمن والسودان وحتى دول غرب إفريقيا، مثل تشاد والنيجر ومالي ودول وسط وشرق آسيا، حيث بدأ مدفع الإفطار عمله في إندونيسيا سنة 1944.
مكة المكرمة
استخدم مدفع الافطار في مكة المكرمة كغيرها من المدن السعودية، إذ اعتاد السعوديون عامة، وأهالي العاصمة المقدسة خاصة، وجود مدفع رمضان الذي يكون إلى جانب الأذان، مؤذنا بالإفطار تارة، وبالإمساك وقت السحور تارة أخرى.
فالمدفع الرمضاني الذي ينقل التلفزيون السعودي يوميا وعلى الهواء مباشرة، لحظة إطلاقه، عرف عنه ظهوره في غرة الشهر الفضيل، بالإضافة إلى إطلاقه في الأعياد إيذانا بدخول العيدين السنويين.
وظل المدفع يعمل في مكة طيلة 50 عاما ماضية قبل أن يتوقف العام قبل الماضي، وجرت العادة في العاصمة المقدسة مكة المكرمة أن تطلق المدافع الصوتية، وذلك مع دخول وقت صلاة المغرب إيذانا بالإفطار، كما يتأهب مدفع رمضان بمكة المكرمة لإطلاق أولى سبع قذائف صوتية إعلانا لدخول شهر رمضان المبارك، ثم يبدأ مزاولة مهامه الرمضانية بغرفته المخصصة له في مقر إدارة المهمات والواجبات بمكة المكرمة.
الكويت
لا يزال مدفع رمضان في الكويت، منذ أن أطلقت أولى ذخائره في البلاد عام 1907، يحتفظ بوظيفته ورونقه خلال شهر رمضان المبارك، ليحيي في كل عام تقليدًا تراثيًا قديمًا اندثر في معظم بلدان العالم الإسلامي، بسبب عوامل التطور والحداثة.
وبدأ الكويتيون في استخدام المدفع، لمعرفة وقتي الإفطار والإمساك، منذ عام 1907، في عهد الشيخ مبارك الصباح (حكم البلاد من 1986 إلى 1915).
الإمارات
عرف الإماراتيون تقليد مدفع الإفطار، في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، وكانوا يسمونه بـ”الراوية” لارتباطه بشرب الماء، واستمر هذا التقليد حتى اليوم.
وكان أول مدفع في إمارة الشارقة، إذ تصاحبه الآن فعاليات مرتبطة به في بث مباشر عبر شاشة الشارقة، ويجتمع عدد كبير من المشاركين في تظاهرة مجتمعية، تنقل صورهم مباشرة إلى أهاليهم وذويهم، فيتحول التقليد إلى احتفالية بمشاركة الجميع.
البحرين
مازال المدفع يحتفظ بكونه أيقونة شهر الصيام لدى البحرينيين، ويجذب الكثيرين حوله مع قدوم الشهر الفضيل في كل عام وقد عرف مدفع الإفطار في مملكة البحرين منذ ثلاثينات القرن الماضي، وقبل أن يعلن عن اكتشاف النفط أو عن تأسيس المملكة.
ولم يقتصر دور المدفع على الإعلان عن موعد الإفطار، ولكنه يطلق قذيفته أيضا ليعلن عن موعد دخول شهر رمضان عند ثبوت الرؤية، وكذلك عند ثبوت رؤية هلال شوال معلنا حلول عيد الفطر، ويطلق أيضا قذائفه عند حلول عيد الأضحى، ويكون عدد قذائف العيدين 12 قذيفة، لكل منهما.
أسباب الغياب
بدأ مدفع الافطار يغيب عن كثير من البلدان العربية والاسلامية لأسباب متعددة منها تسارع الحياة العصرية وتطور وسائل التقنية والاعلام وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي مما أدى إلى القضاء على الموروثات الشعبية ومعظم طقوس رمضان القديمة، إضافة إلى عدة عوامل أخرى، أبرزها انتشار الحروب في عدة دول مثل تونس وليبيا وسوريا والعراق واليمن التي -أوقفت أغلب مدنها إن لم تكن كلها -عادة إطلاق مدفع الإفطار إعلانا عن رؤية هلال رمضان وموعد الإفطار والامساك طيلة الشهر الفضيل.
أما في مكة المكرمة فقد افتقد الأهالي المدفع بعد أن اعتادوا على سماع صوته طوال خمسين عاما خلت إيذانا للصائمين بالإفطار، وبعد أن تعلق الكبار والصغار منهم بذلك الصوت الذي ظهر قبل المكبرات الصوتية، لدرجة أن الكثير من الصائمين يمتنعون عن الإفطار حتى سماع صوت المدفع الذي يرتبط ظهوره بهلال الشهر.
كما اندثرت هذه العادة من بقية مدن السعودية ما عدا المدينة المنورة، إذ صدرت موافقة المقام السامي بإعادة استخدام المدفع الصوتي في المدينة المنورة ، بدءاً من شهر رمضان المبارك من العام قبل الماضي 1436 هـ، وذلك لما يملكه المدفع الصوتي من إرث تاريخي تناقلته الأجيال في المدينة المنورة جيلا بعد جيل.
انزعاج الطيور والطائرات
في تركيا يتم تدريجيًا هجر عادة مدفع الإفطار في رمضان، فمع أن بعض المدن مستمرة في إطلاق مدفع الإفطار مع قلتها، لكن كثير من المدن التركية لم تعد تطلق المدفع وقت الإفطار، وكانت من مبرراتها أن ذلك الصوت العالي يزعج الطيور، وكذلك يشكل إطلاق المدفع خطورة على الطائرات.
مكونات المدفع
يتكون المدفع من سلك المشعل وحجر بطارية وسلك حديدي لاستخدامه في إطلاق القذيفة، وظل المدفع الرمضاني يعمل بالذخيرة الحية في القاهرة حتى 1859 ميلادي إلى أن ظهر جيل جديد من المدافع التي تعمل بالذخيرة "الفشنك" غير الحقيقية وتم الاستغناء عن الذخيرة الحية، أما مدفع مكة فكان يطلق ذخائر صوتية ناجمة عن عملية انفجار البارود واحتراقه داخل فوهة المدفع، إذ ينطلق الصوت ليسمع في كافة أرجاء مكة المكرمة ويصدر دخانا متصاعدا نتيجة لاحتراق البارود بعد إطلاق الذخيرة، ثم استبدل في السنوات الأخيرة بمدفع جديدا "شبه آلي".
شرعية المدفع
يقول أهل العلم إنه لا يوجد مانع شرعي من استخدام المدفع في تنبيه الصائمين بل يوجد مصلحة محضة لاستخدامه لا سيما إذا دعت الحاجة إليه ككبر البلد، وتباعد المساجد، فقد لا يسمع الأذان من كان منزله بعيدا عن المساجد وقد سئل الشيخ عبد الكريم الخضير ما حكم المدافع التي تطلق عند وقت الإفطار؟ فأجاب " هذه دَعَتْ إليها الحاجة ولا مَفْسَدة، قد يقول قائل: كانت الحاجة داعية في عصره -عليه الصلاة و السلام -فلم توجد فهي داخلة في حَيِّز البدع فيما قرره أهل العلم، نقول: الوضع يختلف تماماً، كان المجتمع صغير جداً في عصره - عليه الصلاة والسلام - ويرون الشمس ويرون الفجر طلوعاً وغياباً، أما الآن من يرى الصبح ومن يرى طلوع الشمس، ومن يرى غروب الشمس، لا بد من شيء ينبه الناس على ذلك ، وهذا مصلحة مَحْضَة ولا مفسدة فيه بوجه من الوجوه ، والشرع جاء بتحصيل المصالح .