سلِّ صيامك .. حكاية الأموي الذي وضع قدميه في القيد امتثالًا لأمر الرشيد

ضمن قصص وحكايات من التراث تقدمها "سبق" للتسلية واستخلاص الدروس
سلِّ صيامك .. حكاية الأموي الذي وضع قدميه في القيد امتثالًا لأمر الرشيد
تم النشر في

تروي الشعوب المختلفة الحكايات والقصص الواقعية والخيالية، من أجل إثارة الاهتمام والإمتاع أو تثقيف السامعين أو القراء، وكغيرهم من الشعوب عرف العرب القصص والحكايات، ورواها الرواة في الجاهلية والإسلام، واستخدم القرآن الكريم القصص للتعريف بالأحداث التي مرت بالأنبياء والأمم الغابرة، للتسرية عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وتقديم العبرة والموعظة.

وتقدم صحيفة "سبق" هذا العام، مجموعة من القصص والحكايات من التراث العربي، للتسلية والعبرة، واستخلاص الدروس.

ونبدأ اليوم بحكاية الرجل الأموي الكبير في قومه مع الخليفة هارون الرشيد، وكيف استسلم الرجل لقضاء الله وقدره، وقدّم قدميه طائعًا ليوضع فيهما القيد حين استدعاه الرشيد، وكان الرجل في كل ذلك متوكلًا على الله، حتى جاءت النهاية مفاجأة.

وفي باب التوكل على الله تعالى، يروي الكاتب شهاب الدين محمد بن أحمد أبو الفتح الأبشيهي، في كتابة "المستطرف في كل فنٍّ مستظرف"، حكاية الأموي مع الرشيد، ويقول:
 
استدعاء الرشيد لخادمه منارة 
"رُفع إلى الرشيد أن بدمشق رجلًا من بني أمية عظيمَ المال والجاه كثيرَ الخيل والجند يُخشى على المملكة منه، وكان الرشيد يومئذ بالكوفة؛ قال "منارة" خادم الرشيد: فاستدعاني الرشيد وقال: اركب، الساعةَ، إلى دمشق وخذ معك مائة غلام وائتني بفلان الأموي، وهذا كتابي إلى العامل "والي دمشق" لا توصله له إلا إذا امتنع عليك "رفض الرجل الأموي إطاعة الأمر" فإذا أجاب فقيِّدْه وعادله بعد أن تحصي جميع ما تراه وما يتكلم به، واذكر لي حاله ومآله وقد أجلتك لذهابك ستًّا "ستة أيام" ولمجيئك ستًّا، ولإقامتك يومًا. أفهمت؟ قلت: نعم، قال: فسر على بركة الله.
 
منزل الأموي
فخرجتُ أطوي المنازل ليلًا ونهارًا لا أنزل إلا للصلاة أو لقضاء حاجة، حتى وصلت ليلة "اليوم" السابع باب دمشق، فلما فتح الباب دخلت قاصدًا نحو دار الأموي، فإذا هي دار عظيمة هائلة ونعمة طائلة وخدم وحشم وهيبة ظاهرة وحشمة وافرة ومصاطب متسعة، وغلمان فيها جلوس، فهجمت على الدار بغير إذن فبهتوا وسألوا عني فقيل لهم: إن هذا رسول أمير المؤمنين، فلما صرت في وسط الدار رأيت أقوامًا محتشمين فظننت أن المطلوب فيهم، فسألت عنه فقيل لي: هو في الحمام، فأكرموني وأجلسوني وأمروا بمن معي ومن صحبني إلى مكان آخر، وأنا أنتقد الدار وأتأمل الأحوال.
 
مقابلة الأموي لخادم الرشيد
حتى أقبل الرجل من الحمام ومعه جماعة كثيرة من كهول وشبان وحفدة وغلمان، فسلم عليّ وسألني عن أمير المؤمنين، فأخبرته وأنه بعافية فحمد الله تعالى، ثم أُحضرت له أطباق الفاكهة فقال: تقدم يا منارة، كُلْ معنا، فتأملت تأملًا كثيرًا؛ إذ لم يكنِّني فقلت: ما آكل، فلم يعاودني، ورأيت ما لم أره إلا في دار الخلافة، ثم قدم الطعام فوالله ما رأيت أحسن ترتيبًا ولا أعطر رائحة ولا أكثر آنية منه، فقال: تقدم يا منارة فكل، قلت: ليس لي به حاجة، فلم يعاودني، ونظرت إلى أصحابي فلم أجد أحدًا منهم عندي فحرت لكثرة حفدته وعدم من عندي، فلما غسل يديه أحضر له البخور فتبخر ثم قام فصلى الظهر فأتم الركوع والسجود وأكثر من الركوع بعدها.
 
الأموي يقدم قدميه للقيد
فلما فرغ استقبلني وقال: ما أقدمك يا منارة؟ فناولته كتاب أمير المؤمنين فقبله ووضعه على رأسه، ثم فضه وقرأه، فلما فرغ من قراءته استدعى جميع بنيه وخواص أصحابه وغلمانه وسائر عياله، فضاقت الدار بهم على سعتها فطار عقلي وما شككت أنه يريد القبض علي، فقال: الطلاق يلزمه والحج والعتق والصدقة وسائر إيمان البيعة لا يجتمع منكم اثنان في مكان واحد حتى ينكشف أمره، ثم أوصاهم على الحريم ثم استقبلني وقدم رجليه، وقال: هات يا منارة قيودك، فدعوت الحداد فقيده وحمل حتى وضع في المحمل وركبت معه في المحمل وسرنا.
 
دهشة منارة من حديث الأموي
فلما صرنا في ظاهر دمشق ابتدأ "الأموي" يحدثني بانبساط ويقول: هذه الضيعة لي تعمل في كل سنة بكذا وكذا، وهذا البستان لي وفيه من غرائب الأشجار وطيب الثمار كذا وكذا، وهذه المزارع يحصل لي منها كل سنة كذا وكذا، فقلت: يا هذا، ألست تعلم أن أمير المؤمنين أهمه أمرك حتى أنفذني خلفك وهو بالكوفة ينتظرك وأنت ذاهب إليه ما تدري ما تقدم عليه "العقاب في انتظارك"؟ وقد أخرجتك من منزلك ومن بين أهلك ونعمتك وحيدًا فريدًا وأنت تحدثني حديثًا غير مفيد ولا نافع لك ولا سألتك عنه وكان شغلك بنفسك أولى بك؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد أخطأت فراستي فيك يا منارة! ما ظننت أنك عند الخليفة بهذه المكانة إلا لوفور عقلك فإذا أنت جاهل عامي لا تصلح لمخاطبة الخلفاء.
 
أثق بربي وأتوكل عليه
أما خروجي على ما ذكرت "تجنبي الحديث عن العقاب على يد الخليفة" فإني على ثقة من ربي الذي بيده ناصيتي وناصية أمير المؤمنين؛ فهو لا يضر ولا ينفع إلا بمشيئة الله تعالى، فإن كان قد قضى علي بأمر فلا حيلة لي بدفعه، ولا قدرة لي على منعه، وإن لم يكن قد قدر علي بشيء فلو اجتمع أمير المؤمنين وسائر من على وجه الأرض على أن يضروني لم يستطيعوا ذلك إلا بإذن الله تعالى، وما لي ذنب فأخاف، وإنما هذا واشٍ وشى "شخص اتهمني كذبًا" عند أمير المؤمنين ببهتان، وأمير المؤمنين كامل العقل فإذا اطلع على براءتي فهو لا يستحل مضرتي وعلى عهد الله لا كلمتك بعدها إلا جوابًا، ثم أعرض عني وأقبل على التلاوة وما زال كذلك حتى وافينا الكوفة بكرة اليوم الثالث عشر، وإذا النجب قد استقبلتنا من عند أمير المؤمنين تكشف عن أخبارنا، فلما دخلت على الرشيد قبلت الأرض فقال: هات يا منارة أخبرني من يوم خروجك عني إلى يوم قدومك علي "احكِ كل ما حدث"، فابتدأت أحدثه بأموري كلها مفصلة والغضب يظهر في وجهه، فلما انتهيت إلى جمعه لأولاده وغلمانه وخواصه وضيق الدار بهم وتفقدي لأصحابي فلم أجد منهم أحدًا، أسودَّ وجهه "لم يصب أحد بالغضب أو الخوف"، فلما ذكرت يمينه عليهم تلك الإيمان المغلظة تهلل وجهه، فلما قلت: إنه قدم رجليه أسفر وجهه، واستبشر. 

عفو الرشيد عن الأموي وتكريمه 
فلما أخبرته بحديثي معه في ضياعه وبساتينه وما قلت له وما قال لي "قال الرشيد": هذا رجل محسود على نعمته ومكذوب عليه، وقد أزعجناه وأرعبناه وشوشنا عليه وعلى أولاده وأهله، اخرج إليه وانزع قيوده وفكه وأدخله علي مكرمًا، ففعلت، فلما دخل قبل الأرض فرحب به أمير المؤمنين وأجلسه واعتذر إليه فتكلم بكلام صحيح، فقال له أمير المؤمنين: سل حوائجك، فقال: سرعة رجوعي إلى بلدي وجمع شملي بأهلي وولدي. قال: هذا كائن "نوافق على ما طلبت"، فسل غيره قال: عدل أمير المؤمنين في عماله ما أحوجني إلى سؤال، قال: فخلع عليه أمير المؤمنين ثم قال: يا منارة اركب الساعة معه حتى ترده إلى المكان الذي أخذته منه "أعده معززًا مكرمًا إلى دمشق"، قم في حفظ الله وودائعه ورعايته ولا تقطع أخبارك عنا وحوائجك، فانظر حسن توكله على خالقه فإنه من توكل عليه كفاه ومن دعاه لباه ومن سأله أعطاه ما تمناه.

 

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org