يستعدّ عشّاق الفروسية في مختلِف مناطق المملكة الأيام الحالية، لمتابعة أحد أكثر سباقات الخيل المرتبطة بتاريخ المملكة وثقافتها؛ مهرجان كؤوس الملوك والأمراء الذي تنطلق نسخته الثامنة مساء يوم الجمعة المقبل، على أرض ميدان الملك عبد العزيز بالجنادرية، الذي يُقام تخليدًا لذكرى ملوك وأمراء كان لهم دور كبير في مواصلة مسيرة التنمية وخدمة الوطن ورفعته، والاهتمام بتراث المملكة والحفاظ عليه.
فمنذ عام 2016 يحرص نادي سباقات الخيل على إقامة مهرجان كؤوس الملوك والأمراء؛ تكريمًا ووفاءً لمآثر أبناء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، رحمه الله، لدورهم في توحيد المملكة والحفاظ على استقرارها وازدهارها.
ويشهد المهرجان، في كل عام، مشاركة معظم الإسطبلات السعودية بصفوة جيادها، وإقامة حفل كبير ومتنوع يعكس أصالة تقاليد وثقافة المملكة ومكانة الفروسية في نفوس أبنائها.
حرص ملوك وأمراء الدولة السعودية الثالثة، على مدار تسعة عقود، على رعاية سباقات الخيل وتقديم كل الدعم لها؛ لإثرائها والحفاظ عليها، كشكل من أشكال التراث السعوديّ الفريد، وهو ما وصل إلى أعلى مراحله في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود.
وشكّلت الخيل رمزًا مهمًّا في رحلة بناء المملكة، وتوحيد القبائل وتوطيد الأمن بعد قرون من الفرقة؛ حيث أولى الملك المؤسس الخيل رعايته بالحفاظ عليها من الاندثار أمام قوة الآلة الحديثة، فأقام لها السباقات وأغدق على فرسانها بالجوائز؛ لتظلّ هذه الرياضة حية ونابضة في وجدان كل سعوديّ.
بدأت سباقات الخيل في العاصمة الرياض في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، رحمه الله؛ حيث كانت تقام في الجهة الشمالية الشرقية منها، منطلقةً من نهاية طريق صلاح الدين الأيوبي، ثم تعود لربوة مرتفعة كان يجلس عليها المؤسس لمتابعة مجريات السباق، وتتمثل الربوة الآن في مبنى النادي الرياضيّ التابع لنادي سباقات الخيل بحيّ الملز.
وكانت السباقات في وقتها تقام بين أبنائه، رحمه الله، وعلى خيل عربية أصيلة يملكها بعضٌ من أصحاب السموّ الأمراء من أبنائه، الذين أصبحوا يهتمّون باقتناء الخيل الخاصة بهم، للمشاركة بها في السباقات منذ ذلك الحين، حتى إن الربوة طُوّرت بإنشاء دكّة عليها في عهد الملك سعود، رحمه الله، ليجتمع فيها ملّاك الخيل لمتابعة السباقات.
وتوارث أبناء المؤسس من بعده هذا الاهتمام بالخيل ورعايتها، فدعا الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، عام 1383هـ، عندما كان لا يزال أميرًا، محبّي الفروسية والمهتمّين بالخيل للتجمع ودراسة الحلول المناسبة، ليقرر إنشاء "نادي سباقات الخيل" بتنسيق وعناية من الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، الذي كان أميرًا لمنطقة الرياض وقتها؛ حيث اكتملت الجهود وأنشئ النادي في حيّ الملز عام 1385هـ/ 1965م، وصدر الأمر السامي الكريم من الملك فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، بتكليف الأمير عبد الله بن عبد العزيز برئاسة هذا النادي.
وبعد فترة وجّه الملك عبد الله بإنشاء ميدان يتناسب مع احتياجات الفروسية والسباقات المتطورة؛ حيث ضاق ميدان الملز بالسباقات، ولم يكن من اليسير توسعته؛ لكونه يتواجد داخل حيٍّ سكنيّ، فصار المقرّ الجديد للميدان في الجنادرية، وأطلق عليه اسم ميدان الملك عبد العزيز للفروسية؛ تخليدًا لذكرى المؤسس، بمواصفات عالمية تجمع بين امتيازات الماضي والحاضر على مساحة 9 كيلومترات مربعة.
وتنوعت، منذ ذلك التاريخ، السباقات والمناسبات الكبرى في المملكة العربية السعودية، التي اختصّ بها "نادي سباقات الخيل"، ضمن موسم سنويّ ممتدّ بين مدينة الطائف والعاصمة الرياض، تُقدم خلاله أهمّ الكؤوس المصنّفة محليًّا ودوليًّا.
اشتُهرت الخيل العربية عالميًّا بالقوة والسرعة والجمال، حتى إنها أصبحت مطلبًا لملوك وقادة مختلِف بلدان العالم؛ حيث كان بعض ملوك وأمراء أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر يرسلون البعثات للبحث عن الخيل العربية الأصيلة، وانتقاء أفضلها من قبائل نجد والحجاز؛ لنقلها لمزارعهم والاستفادة منها في تطوير بعض سلالات الخيل الأخرى.
ومع الوقت انتشرت على المستوى الدوليّ سباقات ومهرجانات الخيل؛ لما تشكّله من ثقافة وحضارة مميزة؛ حيث تحتلّ حاليًّا هذه السباقات مكانة بارزة في روزنامة الاتحادات والمنظمات الدولية المعنية بها إقليميًّا ودوليًّا.
وأسهمت مهرجانات سباقات الخيل في استحداث مفهوم "صناعة الخيل" الهادفة لتدريب الخيل وتطوير سلالاتها عبر عمليات تهجين وتلقيح علمية؛ سعيًا لتوفير أحصنة وأفراس قوية جينيًّا، من خلال مزارع يملكها ويديرها ملّاك ومنتجو الخيل، والتي يعتبر من أبرزها -خلال الـ40 عامًا الأخيرة- مزرعة "جودمنت" للأمير خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن، والتي قدمت جيادًا أصبحت علامة بارزة في عالم سباقات الخيل الدولية، يأتي في مقدمتها الجواد الأسطورة الأعلى تصنيفًا في العالم "فرانكل"، الحصان الذي لم يهزم أبدًا، والذي يعدّ أحد الأسباب الرئيسة في حصول مزرعة الأمير خالد بن عبد الله على أهمّ جوائز السباقات العالمية؛ منها سباق الملكة الراحلة "إليزابيث الثانية"، والمصنف كفئة أولى بمهرجان "رويال أسكوت".
وتبرز المملكة المتحدة البريطانية كواحدة من أكثر دول العالم اهتمامًا بسباقات الخيل، عبر تقديمها مهرجان سباقات "رويال أسكوت الملكي"، الذي تعبّر من خلاله بريطانيا عن إرثها الممتدّ لأكثر من 253 عامًا في هذا المجال؛ حيث تقام سباقات المهرجان على مضمار "أسكوت" طوال أربعة أيام، برعاية من الأسرة الحاكمة التي يحضر أفرادُها إلى المضمار بعربات خيل ملكية.
في المقابل تحرص الولايات المتحدة الأمريكية على إقامة مهرجان "كنتاكي ديربي" منذ عام 1875م، والذي يحظى بأهمية وشعبية كبيرة بين أوساط الأمريكيين، مشكّلًا تاريخًا وإرثًا وطنيًّا يعتزّ به مواطنو الولايات المتحدة؛ ما أهّله لاحتلال المرتبة الأولى في روزنامة السباقات الأمريكية والعالمية.