"اللف والنّشر" في القرآن.. تعظيمٌ للمعنى وإثارةٌ للمخاطب.. لمحات ووقفات

في حلقة "سبق" الرمضانية "27" مع دكتور البلاغة والنقد "زيد الخريصي"
"اللف والنّشر" في القرآن.. تعظيمٌ للمعنى وإثارةٌ للمخاطب.. لمحات ووقفات

تُعد بلاغة "اللف والنّشر" في القرآن الكريم من أعظم الأساليب البديعية المعنوية التي جاءت في صور الإعجاز الإلهي، ويُقصد بها لفُ شيئين والإتيان بتفسيرهما جملة، ويُفوّض إلى عقل السامع رد كلِ واحدٍ إلى ما يليقُ به. وتتمثّل بلاغته العظيمة في تشويق النفس وإثارتها وإيقاظها وتنبيهها.

قبسات بلاغية

وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "السابعة والعشرين" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعض من بلاغة "اللف والنّشر" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".

أسلوب بديعي معنوي

قال "الضيف الرمضاني المتخصص": يعدُّ (اللف والنّشر) من الأساليب البديعية المعنوية، وأكثر البلاغيين اتفقوا على تسميته (اللف والنّشر)، وسماه بعضهم (الطّي والنشر)، وأول من التفت إلى هذا الأسلوب، وأشار إليه (المبرد)، يقول: "والعرب تلف الخبرين المختلفين، ثم ترمي بتفسيرهما جملة؛ ثقة بأن السامع يرد إلى كلٍ خبره، قال الله عز وجل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} "القصص:73"، وعرفه الخطيب القزويني، قال: "هو ذكر متعدّد على جهة التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكلّ واحد من غير تعيين، ثقة بأنّ السامع يردّه إليه"، وينقسم اللف والنّشر قسمين: القسم الأول: اللف المفصل والنّشر المفصل، وينقسم قسمين: "لف مفصل ونشر مرتب"، و"لف مفصل ونشر غير مرتب"، أما القسم الثاني: اللف المجمل والنّشر المفصل، ولهذين القسمين تعريفهما، وقيودهما.

بلاغة اللف والنّشر

وأضاف: تبرز بلاغة اللف والنّشر في العديد من الأغراض البلاغية، منها: "التوكيد"؛ لأن اللف والنّشر يؤكد المعنى في الذهن ويثبته، فيثير عند السامع التخيل والتصور، مما يجعل المعنى يرسخ في الذهن. والنوع الثاني: "تفخيم المبهم وتعظيمه"؛ لأنه هو الذي يطرق السمع أولا، فتذهب النفس فيه كل مذهب. وأخيرًا "الإقناع"؛ لأن اللف والنّشر يدعو المتلقي إلى المشاركة في فهم المراد، ثقة به، وهذه الدعوة من وسائل الإقناع".

آيات وشواهد

وعن شواهده القرآنية، قال "دكتور البلاغة والنقد": منها قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} "القصص: ٧٣"، جمعت الآية بين الليل والنّهار فكان اللّف، ثمّ جاء النّشر على ترتيب اللّف، يقول الدكتور "محمد أحمد قاسم": "فالأوّل من المتعدّد في اللفّ هو الليل، والأول من النشر هو السكون؛ لأن النوم والراحة يكونان في الليل، ثم كان الثاني للثاني؛ فالنّهار في اللف تبعه ابتغاء الرزق والسعي في الكسب في النهار"، فانظر على عظيم هذه الآية وما تبعها من تأكيدٍ، وإقناعٍ، وإثارةٍ.

وأتبع: ومن شواهده قوله تعالى: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} "آل عمران: 147-148"، تأمل دعاء المؤمنين، وإجابة رب العالمين، يقول الدكتور "محمد أحمد قاسم": "فالآية تذكر دعاء المؤمنين على سبيل التفصيل، ثم ذكرت الإجابة من غير ترتيب، فقدّمت ثواب الدنيا مع تأخره في الدعاء؛ لما كان المقام مقام القتال والنفوس متطلّعة إلى النصر، وخصّصت ثواب الآخرة- دون ثواب الدنيا بالحسن؛ للإيذان بفضله ومزيته، وأنّه المعتدّ به عند الله".

وواصل الدكتور "الخريصي"، منها قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} "محمد: 27، 28"، يعلق ابن عاشور -رحمه الله- على هذه الآية، يقول: "والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله، وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر؛ للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء، مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله، وأن ضربهم أدبارهم مناسب، لكراهتهم رضوانه؛ لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار، ففي الكلام أيضاً محسن اللف والنشر المرتب".

وختم حديثه عن الشواهد القرآنية في أسماء الله وصفاته، قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} "النساء: 147"، يقول الدكتور "محمود عبد الجليل روزن": "فقوله تعالى: {شَاكِرًا} يعود إلى قوله: {شَكَرْتُمْ}، وقوله تعالى: {عَلِيمًا}، يعود إلى قوله: {وَآمَنْتُمْ}؛ لأنَّ الإيمان الباطنَ لا يعلمه إلا الله، وقد يُظهر المرء عكس ما يبُطن، ويُفيد النَّظر في السياق ملاحظةَ أنَّ الآياتِ جاءت في سياق الحديث عن المنافقين، ثم في فَتْحِ باب التوبة لهم، وتلك التوبةُ لا تتحقَّق للمنافق إلا إذا تاب من نفاقه بتيقُّنِه أنَّ الله مُطَّلِعٌ على سريرته عليمٌ بذات صدره".

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org