"التورية" في القرآن.. إعمال للذهن وإمتاع للمخاطب.. هنا وقفات وقبسات للتأمل

في حلقة "سبق" الرمضانية "24" مع دكتور البلاغة والأدب "زيد الخريصي"
"التورية" في القرآن.. إعمال للذهن وإمتاع للمخاطب.. هنا وقفات وقبسات للتأمل

تُعدّ التورية من أروع الفنون البلاغية، وأسماها على الإطلاق، وجاءت كإحدى صور جمالية القرآن وإعجازه الإلهي. وفيها تُفهم بعض آيات القرآن الكريم المتشابهة، وكلام سيد المرسلين وكلام الفصحاء، فهمًا صحيحًا، وتستحقّ التأمُّل والتدبّر.

وخصّصت "سبق" الحلقةَ الرمضانية "الرابعة والعشرين" من "قبسات بلاغية"؛ للحديث عن بعض من بلاغة "التورية" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍّ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".

وقال "الضيف المتخصّص": التورية من فنون البديع المعنوي، يقال لها: الإيهام، والتوجيه، والتخيير، والتورية أولى في التسمية؛ لقربها من مطابقة المسمّى، ولأنها مصدر وريت الخبر تورية إذا سترته وأظهرت غيره، كأن المتكلم يجعله وراءه بحيث لا يظهر، وهي في الاصطلاح: أن يذكر المتكلّم لفظًا مفردًا له معنيان حقيقيان، أو حقيقة ومجازًا، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد ويوري عنه بالمعنى القريب، فيتوهّم السامع أول وهلة، أنه يريد القريب، وليس كذلك، ولأجل هذا سُمّي هذا النوع إيهامًا، وللتورية أربعة أنواع: مجردة، ومرشحة، ومبيّنة، ومهيّأة، ولها مفاهيمها، وقيودها.

منزلة التورية في البلاغة

وأضاف الدكتور الخريصي: تعدُّ التورية من أهم الفنون البلاغية، وأسماها على الإطلاق، وهي عند البلاغيين بمنزلة الإنسان من العين، يقول الزمخشري: "ولا نرى بابًا في البيان أدقَّ ولا ألطفَ من هذا الباب، ولا أنفعَ ولا أعونَ على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله، وكلام نبيه، صلى الله عليه وسلم، وكلام صحابته، رضي الله عنهم أجمعين، ومنه قول النبي، صلى الله عليه وسلم، حين سئل في مجيئه عند خروجه إلى بدر فقيل لهم: ممن أنتم؟ لم يرد أن يعلم السائل فقال: "من ماء". أراد أننا مخلوقون من ماء، فورى عنه بقبيلة يقال لها ماء".

آيات وشواهد

شواهد قرآنية

وواصل حديثه عن "التورية": من الشواهد القرآنية قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" "الأنعام: 60"؛ حيث جاءت التورية في "جَرَحْتُمْ"، فهل كلمة "جرحتم" من الجرح أو من الألم؟ لو أنعمنا النظر في سياق هذه الآية، لعلمنا أن المراد من هذا الجراح هو الوقوع في الذنب، وليس الجرح الحقيقي، وعلى ذلك تكون هذه اللفظة من قبيل التورية؛ فيكون لهذه اللفظة معنيان؛ الأول قريب ظاهر غير مقصود وهو الجرح الحقيقي، والثاني: بعيد خفي مقصود وهو ارتكاب الذنوب.

وقفات للتأمُّل

وأردف "دكتور البلاغة والنقد": من الشواهد أيضًا قوله تعالى: "قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ" "يوسف: 95"؛ حيث جاءت التورية في قوله: "ضَلَالِكَ"، هل يمكن أن يصف المسلم أباه أنه من الضالين؟ ويفسر ذلك عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، فيقول: "إن المعنى الأول القريب الذي أرادوا الإيهام به: هو أنه ما زال ضالًّا مع أوهامه، طامعًا بعد نيف وثلاثين سنة من غياب يوسف في أن يعود إليه أو يلتقي به، وضالًّا في شغل نفسه بالحزن عليه حتى يكون حرضًا "أي: شديد المرض"، أو يكون من الهالكين، المعنى الثاني البعيد الذي قصدوه: هو أنه ما زال ضالًّا في إيثاره يوسف وشقيقه بنيامين على سائر بنيه، وهذا المعنى هو المعنى الذي كانوا ذكروه قبل أن يلقوا يوسف في غيابة الجبّ، وقد أبانه الله بقوله في أوائل السورة: "إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين" "الآية: 8"".

وختم "الخريصي" شواهده بقوله تعالى: "وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ" "الرحمن: 6"؛ حيث جاء التورية في قوله: "النَّجْمُ"، يقول السيوطي: "فإن النجم يطلق على الكوكب، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر وعلى ما لا ساق له من النبات، وهو المعنى البعيد له وهو المقصود".

رأيٌ لابن حجر رحمه الله

وواصل "دكتور البلاغة والنقد": قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" "سبأ: 28"، يرى ابن حجر، رحمه الله، أن التورية وقعت في الحال المتقدمة "كَافَّةً"، يقول: "فإن "كافة" بمعنى "مانع"؛ أي: تكفهم عن الكفر والمعصية، والهاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب المتبادر أن المراد جامعة بمعنى "جميعًا"، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول: رأيت جميعًا الناس، لا تقول: رأيت كافة الناس"، وهذا رأي يحترم، وإن كان غيره لا يرى التورية في هذه الآية؛ لأن المقصود بـ"كافة" جميعًا، وهذا المعنى لا يحتمل معنيين، ومن جملة من قال بذلك الإمام العلامة ابن باز، رحمه الله، وهذا ما أقول به، وأميل إليه.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org