أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور بندر بن عبدالعزيز بليلة المسلمين بتقوى الله جل شأنه.
وقال في خطبة الجمعة اليوم: إنَّ أعزَّ ما يؤتى المرء في هذه الدنيا إيمان بالله ورسوله، يبلِّغه المقاماتِ العَلِيَّة ويُبَوِّؤه المنازلَ السَّنيَّةَ، فإذا مَنَّ اللهُ على عبدٍ من عَبِيدِه بهذه النِّعمةِ؛ فلا يضرُّه ما فاتَه، فقد وجدَ الخيرَ أجمَعَه، والسَّعْدَ أَوْسَعَه، والكمالَ أَرْفَعَه، وهو مِنَّة شريفة ما أجلَّها.
وأضاف: لما كانَ هذا الإيمان عَزِيزًا، وكانَ عُرْضةً لأنْ يَقوَى ويضعُفَ، ويزيدَ وينقُصَ، ويَشتدَّ ويَلِينَ، ويَتَجدَّد ويَخْلَقَ، ويَذْبُلَ ويُورِقَ كان على المؤمنِ أن يتفقَّدَ إيمانَه ويتعاهَدَه بالرِّعايةِ، ويجدِّدَه بالطَّاعةِ، ويَحفظَه مِنَ النُّقصانِ بتركِ المعاصي ومُجانَبةِ الشَّهَواتِ، والعُدولِ عن مَهاوِي الأهواءِ والفِتَنِ.
وأردف "بليله"، أن اللهَ عزَّ وجلَّ قد جعل له أسبابًا تُنَمِّيهِ وتُقَوِّيهِ، وتحفظُه وتَزِيدُه، وتَجْلُو غِشَاوَتَه، وتَكْشِفُ ظُلامَتَه، فإذا أراد العبدُ سَعادةَ نفسِه وهناءَها فلْيَعْرِفْ أسبابَ زيادةِ الإيمانِ، ولْيَكُنْ عليها أشدَّ حِرْصًا منه على أعزِّ محبوباتِه؛ فإنَّها مَنابعُ للخَيْر، ومَوَارِدُ للطُّهْر، فمِنْ أَظْهَرِ أسبابِ زيادةِ الإيمانِ: قراءةُ القرآنِ بالتدبُّرِ، والنَّظرُ في مَثانِي آياتِه بالتفكُّرِ .
وأكد أن مَنْ يَقْرَأُ كتابَ اللهِ ويَتَدبَّرُ آياتِه، يَجِدُ فيه مِنَ العُلُومِ والمَعارفِ ما يُقَوِّي إيمانَه ويزيدُه ويُنمِّيه؛ ذلك أنَّه يجِدُ فيه مَلِكًا له الملكُ كلُّه، وله الحمدُ كلُّه، أَزِمَّةُ الأمورِ كلِّها بيدِه، ومَصْدَرُها منه ومَرَدُّها إليه، مسْتَوِيًا على عَرْشِه، لا تخفى عليه خافيةٌ في أقطار مَمْلَكَتِه، عالما بما في نفوس عَبِيدِه، مُطَّلِعًا على أسرارِهم وعلانِيَتِهم، يسمَعُ ويَرَى، ويُعطِي ويمنَعُ، ويُثِيبُ ويُعاقِبُ، ويُكرِمُ ويُهِينُ، ويَخلُقُ ويرْزُقُ، ويُمِيتُ ويُحْيِي، ويُقَدِّرُ ويَقْضِي ويُدَبِّرُ ينصَحُ عبادَهُ ويدلُّهم على ما فيه سَعَادَتُهم وفلاحُهم، ويحذِّرُهم ممَّا فيه هَلاكُهم ويتعرَّفُ إليهِم بأسمائِه وصفاتِه، ويتحبَّبُ إليهم بنِعَمِه وآلائه؛ فيذكِّرُهم بها ويأمرُهم بما يستوجبون به تمامَها، ويحذِّرُهم من نِقَمِه، ويذكِّرُهم بما أعدَّ لهم من الكرامةِ إنْ أطاعُوهُ، وما أعدَّ لهم مِنَ العُقوبةِ إن عَصَوْهُ.
وذكر إمام وخطيب المسجد الحرام أن من أشرفِ أسبابِ زيادةِ الإيمانِ أيضًا: معرفةُ الربِّ تباركَ وتعالى بأسمائه الحُسنى، وصفاته العُلى، فإنَّ من عرفه سبحانه بها أحبَّه، وسَارَ بها إِلَيْه، ودَخَلَ بها عَلَيْه فإذا عَلِمَ العَبْدُ بتفرُّد الرَّبِّ تباركَ وتعالى بالضُّرِّ والنَّفعِ والعَطاءِ والمَنْعِ؛ فإنَّ ذلك يُثْمِرُ له عُبُودِيَّةَ التَّوَكُّلِ باطنًا وظاهرًا وإذا عَلِمَ أنَّه سُبحانَه سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ لا يَخفى عليهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرضِ، وأنَّهُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُورُ؛ فإنَّ هذا يُثمِرُ له حِفْظَ اللِّسَانِ والجَوَارِحِ وخَطَراتِ القَلْبِ عمَّا لا يُرْضِي اللهَ، وإذا عَلِمَ أنَّ اللهَ غَنِيٌّ كريمٌ بَر رؤوف رَحِيم واسِعُ الإحسانِ؛ فإنَّ هذا يُحقِّقُ له قُوَّةَ الرَّجَاءِ، والرَّجاءُ حادٍ إلى أنواعٍ كثيرةٍ من العِباداتِ الظَّاهِرَةِ والبَاطِنَةِ، وإذا عَلِمَ بكمالِ اللهِ وجَمَاله؛ أوجبَ لهُ هذا مَحَبَّةً خاصَّةً وشوقًا عظيمًا إلى لقاءِ اللهِ تعالى، وهذا يُوقِفُه على أنواعٍ من التعبُّد له سبحانه، والرَّغْبَةِ إليهِ عزَّ وجلَّ ولهذا رغَّب النبيُّ صلى الله عليه و سلم ترغيبًا خاصًّا في الإحاطة بهذه الأسماء، حيث قال: إنَّ لله تسعةً وتِسْعينَ اسمًا: مئةً إلا واحدًا. مَنْ أحصاها، دخل الجنَّة» متفق عليه.
وشدّد "بليلة" على أن من عظيمِ الأسباب المعينة على زيادة الإيمان التأمُّلَ في محاسن هذا الدِّينِ، دينِ الإسلامِ، والتعرُّفَ على كمالِ شريعته، وصفاءِ عقيدتِهِ، وجمالِ أخلاقِهِ وآدابِهِ، وعُلوِّ نِظامِه ومقاصدِه، وشريفِ حِكَمه ومَصالِحه العاجلة والآجلة، فإنَّها لتُنادي بأنَّها شريعةُ أحكمِ الحاكمين وأرحمِ الرَّاحمين.
وقال خطيب الحرم المكي: حَسْبُ العُقولِ الكاملةِ الفاضلةِ أنْ أدرَكَتْ حُسنَها، وشَهِدَتْ بفضلِها، وأنَّه ما طَرَقَ العالمَ شريعة أكملُ ولا أجلُّ ولا أعظمُ منها، فهي نفسُها الشَّاهِدُ والمَشْهُودُ له، والحُجَّةُ والمحْتَجُّ له، والدَّعْوى والبُرْهَانُ، ولو لم يَأْتِ المرْسَلُ ببُرهانٍ عليها، لكفى بها برهانًا وآيةً، وشاهدًا على أنَّها مِنْ عندِ الله، وكلُّها شاهِدةٌ له بكمالِ العِلمِ، وكمالِ الحِكْمةِ، وسَعَةِ الرَّحْمةِ والبِرِّ والإِحسانِ، والإحاطةِ بالغَيْبِ والشَّهادةِ، والعِلْمِ بالمبادىءِ والعَواقِبِ، وأنَّها مِنْ أعظمِ نِعَمِه الَّتي أنعمَ بها على عِبَادِه.
وأضاف: بصائر النَّاس في هذا النُّور التامِّ على ثلاثةِ أقسامٍ: أحدُها: مَنْ عَدِمَ بَصِيرةَ الإيمان جُمْلةً، فهو لا يَرَى من هذا الضَّوءِ إلا الظُّلُماتِ والرَّعدَ والبَرْقَ، فهذا القسمُ هو الذي لم يَرْفَعْ بهذا الدِّين رأسًا، ولم يَقْبَلْ هدى اللهِ الذي هدى به عبادَه ولو جاءَتْه كلُّ آيةٍ، القسمُ الثَّاني: أصحابُ البَصائِرِ الضَّعيفَةِ، فهُمْ تَبَعٌ لآبائهم وأسلافهم؛ دِينُهم دِينُ العَادَةِ والمنْشَأِ، أما القِسمُ الثَّالثُ: وهم خُلاصةُ الوُجودِ، ولُبَابُ بني آدمَ؛ وهُمْ أصحابُ البَصائرِ النَّافِذَةِ، الَّذين شَهِدَتْ بصائِرُهُم هذا النُّورَ المبِينَ، فكانوا مِنْهُ على بَصِيرةٍ ويَقينٍ، ومُشَاهدةٍ لحُسْنه وكمالِه، بحيثُ لو عُرِضَ على عُقُولِهِم ضِدُّه لرأوهُ كاللَّيْلِ البَهِيم الأَسْوَدِ.