(أ)
من أعجب وأجمل ما في هذا القرآن: أن القرآن يُفسّر القرآن!
كلمة هنا.. تكشف لك سرها كلمة هناك.
سؤال في هذه السورة.. تعرف إجابته في سورة تليه.
صورة هنا.. يتضح – ويزيد - جمالها في صورة أخرى.
أدهشني وصف الريح بـ «العقيم» في الآية التي وصفت عذاب قوم عاد ونهايتهم المرعبة
﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾
ولم أفهم الصورة، ولم استوعب السبب!
عندما قرأت في سورة أخرى
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾
اكتشفت الجمال القرآني والدقة والبلاغة العجيبة:
هذه ريح عقيم، وتلك رياح لواقح.
هذه: موت، وتلك: حياة.
هذه ريح المُنبَتّ، وتلك رياح النبت.
هذه تنزع، وتلك تزرع.
وهذه الرياح اللواقح عندما تتقدم العلوم البشرية تكتشف أنها تنقل حبوب اللقاح من ذكور النبات إلى إناثها.. ويتقدم العلم أكثر وأكثر ويكتشف أن الرياح اللواقح يبدأ عملها في السماء قبل الأرض عندما تتسبب بقدرة المسبب باصطدام الغيمة في الغيمة ليبدأ صنع الماء في السماء، وعن هذا الماء، ومنه.. يقول الخالق:
﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾
وطالما أن من الماء كل شيء حي، فهذه الرياح اللواقح: لواقح لكل شيء!
(ب)
﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾
تخيّل ملك الملوك وكيف يكون عرشه على الماء؟!
ما حجم هذا العرش واتساعه؟
ما كمية هذا الماء وامتداده الذي احتوى وتحمّل هذا العرش؟
في أي لا زمان ولا مكان - قبل خلق الزمان والمكان - كان هذا المشهد العظيم؟
فقط تخيّل!
تخيّل عظمة هذا العرش ومهابته، وتخيّل عظمة صاحب العرش..
وسبّح واحمد وكبَّر.
(ج)
قَالَتْ لَهُ: اللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا.
وانصرف عنهما، وقبل أن يغيبا عن نظره وراء أحد جبال مكة.. رفع إبراهيم يديه إلى السماء:
﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾
وسط هذا الوادي الموحش ذهبت هاجر التي آمنت بالله (إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا) تبحث عن شربة ماء لها ولرضيعها.. فكان الله سبحانه عند حسن ظنها به، واستجاب لدعاء نبيه إبراهيم، وبدلاً من «شربة» ماء تفجر «نبع» زمزم.. ولم ينقطع ماؤه منذ آلاف السنين حتى يومنا هذا!
هذا النبع كانت الاستجابة المختصرة لدعاء إبراهيم.. كل ما طلبه:
اجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم/ ارزقهم من الثمرات.. تحققت بوجود الماء.
هذا النبع حوّل المكان الموحش إلى مكان حي، وتجمع بشري عظيم.
بجانب هذا النبع ولد وترعرع الرجل الأعظم الذي غير وجه التاريخ: محمد بن عبدالله. وقال عن هذا الماء:
«إنها مباركة.. إنها: طعام طعم، وشفاء سقم»
(د)
﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ:
فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ
وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ
وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ﴾
من ماء دافق نتكاثر..
وفي الأصل من ماء اختلط بالتراب خلقنا.. من الطين:
كأن التراب تطهّر بالماء: فكان ما فينا من خير..
وكأن الماء تلوّث بالتراب: فكان ما فينا من شر!
(هـ)
الماء: أول شيء اشتهاه أهل النار وطلبوه من أهل الجنة..
﴿وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ:
أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾
لأنهم لا يعرفون في جهنم من المياه إلا هذه الأنواع المرعبة بأسمائها وصفاتها…
- الماء الصديد:
﴿من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد﴾
-ماء المهل:
﴿وأن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه﴾
- الماء الحميم:
﴿وسقوا ماء حميمًا فقطع أمعاءهم﴾
(و)
الماء: حياة..
والماء عقاب، وموت:
﴿يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين
قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء﴾
كان عليه أن يأوي لرب الماء والجبل
يريد أن يهرب من مخلوق الله العذب: الماء.. إلى مخلوق الله الصلب: الجبل!
يا مسكين.. لن ينجيك من الله إِلّا الله.
والماء علاج:
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾
(ز)
قال فرعون وهو بكامل غطرسته وجبروته:
﴿وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾
كان يتباهى ويتفاخر بغرور بما عنده من الماء، فانتهى هو وجنده بالماء!
من أعطاك الماء العذب.. عذّبك بالماء.