كائنٌ صغير، لا يُرى بالعين المجردة، بتركيبة محيرة معقدة، لا يرى بعض العلماء أنه كائن حي أصلاً!! ومنهم مَن يرى أنه يملك لغزًا من ألغاز الحياة، لا نعرف سرها!! تخصصه الدقيق اقتحام وتدمير الخلايا، تمامًا كقوات الاقتحام العسكرية، الفَرق أنه أكثر خبرة ومراسًا من أعتى قوات الاقتحام في العالم. يقتحم الخلية بطريقة غاية في المكر والدهاء والتخفي؛ ليقوم بقَلْب عاليها سافلها، بل تسخيرها لإنتاج المزيد من الفيروسات. مدهش ومخيف أمر فيروس كورونا الغامض الذي يعلِّمنا دروسًا قاسية؛ فكما يفعل بالخلية كذلك يفعل بأهل الأرض؛ فيقض مضاجعهم ورؤساءهم وعلماءهم وعامتهم؟!!
تعلمت منه كيف لجندي صغير أن يقلب موازين القوى في العالم؛ فتتصاغر وتنهزم أمامه أشرس وأخطر أسلحة الدمار الشامل؟!! وتعلمت منه كيف لقوة خفية، لا تسمع لها صوتًا ولا ركزًا، أن تزلزل اقتصاد العالم.. وذكّرني بأنه مهما بلغ الإنسان من العلم والكبرياء والسطوة والجبروت يظل وضيعًا صاغرًا أمام جبروت الأرض والسماء، {ظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.
مدهش ومخيف أمر هذا المارد الخفي الصغير في موازين أهل الأرض، كيف له أن يقلب موازين الحياة في يوم وليلة، وهو الصامت الذي لا يتكلم، والأعمى الذي لا يرى، فكيف به لو ظهر أمامنا واسمعنا صوته؟!! خرج ليخبرنا بأنه قادر على قلب العلاقات الاجتماعية رأسًا على عقب؛ ليصبح القرب من الحبيب مضرة، والبُعد عنه سلامة، بل يتمادى في كبريائه وسطوته حتى قلب هرم الأمنيات؛ فلم يعد جل أمنية الفرد سوى الخروج من منزله!!
ظهر لنا هذا المارد الخفي ليقول للعالم أجمع: أعيدوا حسابات حرياتكم المزعومة وإلا حرمتكم أبجدياتها!!
فها هو يظهر في الأرض كما في البحر والجو؛ فيغلق المطارات، ويصد السفن السياحية الفارهة عن موانئها، ويحجر ملايين البشر في منازلهم، وكأنه يردد { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. وكأني بهذا المارد يتربص شرًّا بانفلات الفطرة البشرية، وحرية الهوس الجنسي، وانتكاس القيم التي لم يسبق له مثيل في الأمم الغابرة. وكأنه يتساءل كيف لهذه الحرية المزعومة، التي تتداعى لها دول العالم، هي نفسها التي تسحق صوت الفقراء والمساكين والضعفاء والجوعى؛ فلا تسمع لهم ركزًا ولا ضجيجًا إعلاميًّا صاخبًا كصخب أهل الثراء والمجون والعربدة؟!! وكيف لهذه الحرية المنفلتة، التي ترى في العري والدعارة والمثلية الجنسية حقوقًا إنسانية مصانة مكرمة، تقف بكل جبروتها وطغيانها أمام حجاب امرأة أن تقول ربي الله. تأملوا كيف أصبحت إيطاليا بلد الأزياء والموضة، والحياة الصاخبة، وصناعة السيارات الفاخرة، واليخوت الفارهة، بعد كل وضاءتها وجمالها!! داعيًا لها وللعالم بأسره أن يزيل هذه الجائحة.
وفي سياق آخر، ذكَّرني هذا المارد الخفي بما جاء في الأثر "ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه"، فيخرجون من عين الله وكنفه، ليس لله بهم حاجة. فكلما ابتعد المسلمون عن ربهم، وأضاعوا الصلاة، وانغمسوا في الملذات المحرمة، وأكلوا أموال الناس بالباطل، وضيعوا الأمانة، ولهثوا وراء الرويبضة، ولم يعد في أموالهم حق للسائل والمحروم، سلَّط الله عليهم عدوًّا من خارجهم لعلهم يستغفرون ويتوبون. وكأني بهذا الخفي يقرع أجراس حرب خفية، تؤصل لمثل قرية {كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، وأن ما أصابنا من مصيبة فمن عند أنفسنا، وبما كسبت أيدينا، ومن يهن الله فما له من مكرم. وكأني أراه يرفع درجة تحذيره لنا بقول خالقه { فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومع ذلك فأبشروا وأملوا من الله؛ فالمؤمن يجد خلف كل باب موصود بابًا من الرحمة والمثوبة، يطرقه بالدعاء والتضرع والتوبة والاستغفار. فهذا الخفي يجبرنا أن ندعوا ربنا أن مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين. وأبشروا؛ لأن من فضل الله وكرمه علينا أن وفَّقنا لقيادة رشيدة، تعاملت بكل حزم وحذر مع هذا العدو الخفي في خطوات استباقية احترازية عالية، سبقت بها العديد من الدول، مع تضحيات أبطال الصحة والقطاعات الأمنية والعسكرية والقطاعات الأخرى، يصحبها تجاوب ومواطنة مسؤولة وراقية من مجتمعنا. وكلها تبشرنا -بعون الله- بأننا سنتجاوز هذه المحنة متى ما صاحبها فرار إلى الله، وتوبة واستغفار، ممزوج بالصبر والصلاة والصدقة، وإرجاع الحقوق إلى أهلها.
أخيرًا، كأني أرى هذا الفيروس يخرج عن صمته؛ ليهمس في أذني أن أبلغ نفسك وقومك في هذا الوقت العصيب بقول نبيكم -صلوات الله عليه وسلامه-: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك". وكأني به يقول: لستُ سوى خلق من خلق الله؛ فتوكلوا عليه، وخذوا بأسباب الدنيا والآخرة.
دمتَ بخير وصحة يا وطني، وفي طاعة الله -عز وجل-. والله خير حافظًا، وهو أرحم الراحمين.