"قوتنا الناعمة" في التعليم

"قوتنا الناعمة" في التعليم
تم النشر في

مصطلح "القوة" حين يُطرح يكون المقصود به عامة: القوة الصلبة التي تستخدمها الدول القوية للسيطرة والتحكم في الدول الصغرى، باستخدام العنف والإجبار والإكراه.

وهناك قوة أخرى، ربما هي الأكبر تأثيرًا، والأقل كلفة، لكنها الأكثر خطرًا على هويات البلاد، وثقافتها ومستقبلها.. تلك هي "القوة الناعمة" التي تؤثر في سلوك الآخرين من خلال الجاذبية والإبهار! أي إن الحرب اليوم ليست تلك الحروب المعروفة بسلاح في مواجهة سلاح آخر، إنما قوة عقول، وحرب أفكار وهويات في مواجهة أفكار أخرى، وثقافات أخرى، تعبِّر عنها العولمة التي صارت تمثل خطرًا على الثقافات الشعبية، والهويات الأصيلة في العالم كله.

فمصطلح "القوة الناعمة" يؤكد القدرة على الإقناع بدلاً من الإكراه، كما يؤكد استخدام الثقافة ومنظومة القيم والاقتصاد والمعرفة كقوى لإقناع الآخرين، والتأثير فيهم.

ويُعد التعليم النوعي اليوم أحد أبرز أذرع القوة الناعمة بلا منازع. وهو أيضًا أحد أهم أنشطة ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الرشيقة في تسويق الصورة الوطنية وإدارة الأزمات بكفاءة.

والجميع يعرف القوة الصلبة أو الخشنة، وهي قوة السلطة والإرغام، وأحيانًا قوة الإغراء المادي، على مستوى الأفراد والأسرة والمؤسسات، وكذلك الحكومات.. غير أن القليل منا يعرف "القوة الناعمة" وأهميتها، وهي تتمثل في أن يقوم الآخرون بما تريده دون أن تجبرهم بالقوة أو تغريهم بالمال.

خذوا هذا المثل، وهو جانب من التطبيق: يقول أنس - رضي الله عنه -: "خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين. والله ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء لِمَ فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا".

سيد الخلق هو سيد "القوة الناعمة" دون شك. هذه القوة هي أن تفعل لأنك تحب أن تفعل، وليس أن تفعل لأنك مجبور بسلطة الترغيب أو الترهيب؛ إذ إن تنفيذ المهمة لأجل الحصول على الإغراء المادي ليس في عداد هذه القوة.

إن آليات "القوة الناعمة" تتمثل في قوة الجذب عن طريق السلوك، وهي القدرة على جذب إنسان، وتعليقه بأفكارك وقيمك، وأن يفعل ما تريد دون نوع من الإرغام أو نوع من الإغراء. وهذا يعتمد على وجود متلقين مستعدين ومؤمنين بمشروعية ما تقدمه أنت لهم.

فهي بالتالي قوة غير مادية، لكنها قوة حب وقناعة وإعجاب.. وتصل حتى درجة الانبهار والإبهار!

وإيمانًا بأهمية التعليم، ودوره في ترسيخ القيم في المجتمعات، ومواكبة لرؤية 2030، رؤية "وطني" المملكة العربية السعودية، التي نصت على ترسيخ القيم كركيزة أساسية للمجتمعات الحيوية، وبناء الإنسان وتنمية قدراته، وتمكين التعليم من دوره كشريك فاعل في تنمية الوطن، وبناء العقول، وصناعة أجيال المستقبل.. وإدراكًا من القيادة الحكيمة منذ تأسيسها بأن التطور والتنمية الحقيقية للوطن يأتيان أولاً بالاستثمار الحقيقي في تطوير وبناء العقول والكوادر البشرية المؤهلة من أبناء وبنات الوطن، فقد تم إطلاق مشروع برنامج خادم الحرمين للابتعاث الخارجي منذ ما يقارب أربعة عشر عامًا. وهو خير دليل على دعم مسيرة التعليم، وبناء العقول، وتنمية البلاد.

ونحن نسعى من خلال طرح هذه المبادرة "ملحقياتنا الثقافية وأنديتنا الطلابية قوتنا الناعمة في التعليم" إلى تعزيز ممارسة أبنائنا المبتعثين "كقوى ناعمة"، وإلى التأثير الإيجابي على سلوك الأفراد والجماعات في المجتمعات الغربية والأوربية؛ بما يضمن الفهم العميق لثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، وليكونوا مشاعل نور وعلم، يضيئون المجتمعات التي يعيشون فيها، ويحملون راية وطنهم في الآفاق.

فنحن لدينا ما يقارب 200 ألف مبتعث ومبتعثة، إضافة إلى الطلبة الدارسين على حسابهم الخاص حول العالم، ينهلون من مختلف العلوم، ويتفاعلون مع مختلف الشعوب والثقافات.. هؤلاء لا بد أن يكونوا "قوى ناعمة" على مستوى المؤسسات الأكاديمية، وكذلك في المجتمعات التي يعيشون فيها. فوجود 32 ملحقية ثقافية، وكذلك وجود ما يقارب 300 ناد سعودي حول العالم، سيسهمان –بإذن الله تعالى- في سرعة تحقيق أهداف "قوتنا الناعمة في التعليم".. فالعمل الثقافي والإعلامي في ملحقياتنا الثقافية دائمًا بحاجة إلى التجديد والتحديث والتنظيم، وفن الإدارة و"جودة المحتوى" من حيث مستوى الخطاب الثقافي والإعلامي، ومستوى البرامج والفعاليات، خاصة أن ملحقياتنا الثقافية تستقبل سنويًّا أعدادًا معتبرة من الطلبة المبتعثين، وأيضًا من الدارسين على حسابهم الخاص؛ وهذا يتطلب منا أن نتطلع إلى الدور المحوري المهم، وهو تحويل هذه الموارد "القوى الناعمة" إلى واقع متحقق ومنتج لقوتنا الناعمة في التعليم عبر بوابة ملحقياتنا الثقافية وأنديتنا الطلابية حول العالم. ولتفعيل هذه "القوى الناعمة" يجب أولاً العمل على اختيار قيادات بارعة ومتميزة في مجال الثقافة والإعلام؛ وبذلك نختصر نصف المسافة؛ فهذه القيادات ستعجِّل في دفع عجلة هذه "القوى الناعمة" المتمثلة في أبنائنا المبتعثين بكفاءة عالية، ومساعدتهم في استغلال الفرص المناسبة والفعاليات الملائمة.

وكذلك تأمين جميع الأدوات اللازمة لكل فعالية، ودعمهم ماليًّا ومعنويًّا، والعمل على تنفيذ السياسات والمهام المناطة بهم على أكمل وجه، والحرص على "جودة المحتوى" فيما يتم طرحه في هذه الفعاليات، والعمل باحترافية عالية في التنظيم والإشراف على البرامج والمناسبات والفعاليات الثقافية والاجتماعية المقامة في جامعاتهم، أو الأنشطة الأخرى التي تدور حول العمل الثقافي والتعليمي في مدنهم، أو الولايات التي يقيمون بها، وتعزيز صورة السعودية ومكانتها في العالم أجمع، ونقل المشهد الثقافي الوطني السعودي لهذه الشعوب بكل فخر واعتزاز.

فأبناؤنا الطلبة المبتعثون والدارسون على حسابهم الخاص هم "القوى الناعمة"، بل هم الأداة الرئيسة لتحقيق الأهداف والمستهدفات لهذه "القوة الناعمة".

ولتحقيقها علينا العمل على تعزيز وتفعيل دور الملحقيات الثقافية، وتوجيهها في سرعة الوقوف على احتياجات الأندية الطلابية الواقعة تحت إشرافها، وتأمينها بجميع المستلزمات والاحتياجات المالية والمكتبية.

فهذه "المبادرة" تهدف إلى تعزيز دور السعودية في مجال التعليم العام والعالي والدراسات العليا والبحث العلمي والتطور المهني والتقني، وستسهم أيضًا في دعم الروابط الثقافية بين مجتمعات تلك الدول، خاصة في مقر دول الابتعاث، كما ستساعد في زيادة المخزون المعرفي لدى الطرف الآخر لإنجازات السعودية، وما توصلت إليه من تطور في جميع المجالات، إضافة إلى زيادة الوعي لدى هذه الشعوب والمجتمعات الأخرى المقيمة في مقر دول الابتعاث لدور السعودية البارز والرائد في مجالات عدة، من أهمها دورها الإنساني، وسرعتها في تلبية نداءات الاستغاثة للدول المنكوبة من خلال تقديم الدعم المالي والغذائي والكثير من المساعدات الإنسانية والإغاثية لأغلب دول العالم دون تمييز أو تمايز عرقي أو ديني أو أيديولوجي.

قبل الختام.. هناك أدوات أخرى لتفعيل "القوة الناعمة في التعليم".. على سبيل المثال لا الحصر: افتتاح فروع لبعض الجامعات العالمية في السعودية، كذلك استضافة الطلاب الأجانب في السعودية بمنح دراسية في الجامعات الحكومية والأهلية. وهذه تصنف من أبرز الأدوات لمفهوم "القوة الناعمة في التعليم".

وهذا يعتبر الاستثمار بعيد المدى في العنصر البشري للدول الأخرى، أي إذا كانت الثقافة هي إحدى أهم أدوات تأثير القوة الناعمة لدولة ما فإن من أهم قنوات تلك القوة برامج تبادل الطلاب "المنح الدراسية المجانية".

وقد لخص وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول هذه الحقيقة في قوله: "لا أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا أضمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا"؛ ذلك أن الطلبة الدوليين يعودون إلى أوطانهم في العادة بتقدير أكبر لقيم ومؤسسات البلدان التي درسوا فيها.

ختامًا.. نأمل بل نرجو من قيادات وزارة التعليم، ممثلة في قائدها معالي الوزير الدكتور حمد بن محمد آل الشيخ، بذل الجهد المضاعف من الدراسة والتخطيط والتنسيق لوضع خطة استراتيجية ذات أهداف قصيرة المدى وبعيدة المدى، مع رسم مؤشرات لقياس مدى قوة التأثير إيجابًا على مستوى الأفراد والجماعات في هذه الدول المستهدفة.. مع السعي والتفكير العميق لإيجاد أدوات ووسائل مبتكرة وحديثة ذات جودة عالية من حيث محتوى المادة المطروحة، التي ستسهم في تحقيق الاستدامة لهذه "القوة الناعمة" لمملكتنا الحبيبة عبر الأصعدة كلها.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org