
تواصل دولتا تونس والمملكة العربية السعودية جهودهما الحثيثة في دعم القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني المشروع لاسترداد حقوقه بكل الوسائل المشروعة، ولدى البلدين تاريخ حافل وطويل من المواقف المشرفة في هذا الشأن.
ويتمثل أحد أبرز هذه المواقف في رؤية الحبيب بورقيبة للقضية الفلسطينية ونصيحته للقادة الفلسطينيين بقبول قرارات مجلس الأمن، والعمل بالتدرج في حل القضية الفلسطينية، مستلهماً نصيحة الملك عبدالعزيز له في هذا الشأن.
ففي الثالث من مارس من عام 1965 زار الحبيب بورقيبة رئيس دولة تونس آنذاك أريحا؛ بهدف إقناع الفلسطينيين والعرب بقبول قرار من مجلس الأمن رقم 181 والقاضي بمنح دولة لفلسطين بنسبة 49% من الأراضي مقاسمة مع "إسرائيل"، مع جعل القدس عاصمة مستقلة حيادية تحت إدارة الأمم المتحدة.
وكان القرار في ذلك الوقت يعتبر حلماً اليوم بكل المقاييس، لكن السياق الحماسي للأمة العربية في تلك الفترة مع الأنظمة العربية الثورية لم تستسغ فكرة "بورقيبة"، ورفضت الدول العربية القرار، وتوعدوا "إسرائيل" بإزالتها من الخارطة، ورفضوا فكرة التعايش معها آنذاك، وتعهدوا بشن حروب متواصلة حتى تحرير الأرض والقدس.
وبات موقف الزعيم الحبيب بورقيبة من القضية الفلسطينيّة معلوماً اليوم، وخصوصاً من قبل العارفين بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وهو موقف يتجانس مع منهجه السياسي القاضي بضرورة اتباع سياسة المراحل التي استقاها من أخيه الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- من أجل تحرير البلاد التونسيّة من الاحتلال الفرنسي في تلك الحقية.
ويدعو موقف "بورقيبة" بشأن القضية الفلسطينيّة إلى قبول الفلسطينيين والعرب بقرار التقسيم رقم 181 وإنشاء دولة فلسطينيّة على جزء من أرض فلسطين على أساس قرار الأمم المتحدة المذكور، مع الاستمرار بالمطالبة بالبقية والضغط للوصول إلى المبتغى. وهو الموقف الذي أعلنه الرئيس "بورقيبة" في خطابه الشهير في مدينة أريحا في 3 مارس 1965 أي بعد شهرين من إنشاء منظمة التحرير الفلسطينيّة، وقبل 15 شهراً من قيام "إسرائيل" باحتلال كامل فلسطين والجولان وشبه جزيرة سيناء.
وقد حركت بعض الأنظمة العربية آنذاك شعوبها للقيام بتظاهرات عارمة في كل من بغداد وبيروت والقاهرة التي حرق فيها منزل السفير التونسي بالكامل، تحت أنظار الأمن المصري حسب شهادة الدبلوماسي التونسي الحبيب نويرة.
وفي خطابه الشهير، حث "بورقيبة" الفلسطينيين على عدم الركون إلى الخطب الحماسية والعواطف، بل صياغة مواقف عملية وواقعية وخطط لمواجهة مغتصبي الحق، فضلاً عن البحث عن قيادة واعية تتمتع بإجماع شعبي لقيادة مسيرة التحرير التي يجب أن يتقدم صفوفها أصحاب الحق أولاً.
مختارات من أقوال "بورقيبة" في أريحا:
"إنني شديد التأثر من هذه المناظر وشديد الاعتزاز لِما لمسته من حماس وإرادة حديدية وتصميم على استرجاع الحق كاملاً. تعلمون أن الشعب التونسي كان إبان النكبة مغلوباً على أمره، يعاني وطأة الحكم الاستعماري المباشر. ومع ذلك، فقد أسهم في القيام بالواجب المقدس وشارك في حرب فلسطين. لكننا نعتبر في تونس أننا لا نزال مقصّرين. لكن ما أريد أن ألفت إليه نظركم، أصحاب الحق السليب، كما كنا نحن أصحاب الحق، الذي استبد به الاستعمار في تونس هو أنه يجب أن تكونوا في الصف الأول من هذه الواجهة التي تعمل على حماية فلسطين. إنني أصارحكم بما أعتقده في قرارة نفسي وما آمنت به من بعد تجربتي في الكفاح من أجل التحرر والانعتاق التي دامت 34 سنة فإن دوركم في المعركة هو الدور الأول وهذا ما يجب أن تضعوه نصب أعينكم في قرارة نفوسكم وعقولكم.
أريد أن ألفت نظركم إلى أن تجربتي الشخصية في كفاحي الطويل أكّدت لي أن العاطفة المشوبة والأحاسيس الوطنية المتقدة التي أرى نموذجاً حياً منها على وجوهكم لا تكفي لتحقيق الانتصار على الاستعمار، بل لا بد مع الحماس والاستعداد للتضحية والموت والاستشهاد من قيادة موفقة تتحلى بخصال كثيرة، ولا بد من رأس يفكر ويخطط وينظر إلى المستقبل البعيد. والكفاح المركز يقتضي فهْم العدو ومعرفة إمكانياتنا الحقيقية وتقدير إمكانيات الخصم وضبطها بأكثر ما يمكن من الموضوعية والتحري والتثبت حتى لا نرتمي في مغامرة أخرى تصيبنا بنكبة ثانية وتعود بنا أشواطاً بعيدة إلى الوراء.
إن الإكثار من الكلام الحماسي أمر سهل وبسيط للغاية. أمّا ما هو أصعب وأهم فهو الصدق في القول والإخلاص في العمل، ودخول البيوت من أبوابها. وإذا اتضح أن قوانا لا قِبل لها بمحق العدو ورميه في البحر فعلينا ألا نتجاهل ذلك، بل يجب أن ندخله في حسابنا، وأن نستخدم مع مواصلتنا الكفاح بالسواعد الاستراتيجية وأن نستوحيها في مواقفنا حتى نتقدم نحو الهدف مرحلة بعد مرحلة مستعينين في ذلك بالحيلة والجهد فإن الحرب كما لا يخفى كر وفر. وعلى الزعيم المسؤول عن المعركة أن يتثبت من الطريق الموصل إلى الهدف، وأن يدخل في حسابه المنعرجات، التي قد يضطر إلى اتّباعها، لاجتياز العراقيل والصعوبات. ويبدو أن هذا الأمر قد تعذر على الكثير من الزعماء العرب.
سياسة الكل أولا شيء
وتابع: "ما كنا لننجح في تونس خلال بضع سنوات لولا أننا تخلينا عن سياسة (الكل أو لا شيء)، وقبلنا كل خطوة تقربنا من الهدف، أما هنا فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم، وما جاء به الكتاب الأبيض.
ولو رفضنا في تونس عام 1954 الحكم الذاتي باعتباره حلاً منقوصاً لبقيت البلاد التونسية إلى يومنا هذا تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة تحكمها باريس. هذا ما أحببت أن أقوله لكم في هذه الزيارة التي سيتذكرها دائماً هذا الرجل المتواضع أخوكم الحبيب بورقيبة، وهذه هي نصيحتي التي أقدمها لكم ولكل العرب حتى تضعوا في الميزان لا العاطفة والحماس فقط، بل كذلك جميع معطيات القضية.
وهكذا نصل إلى الهدف ولا نبقى سبع عشرة سنة أخرى أو عشرين سنة نردد: "الوطن السليب... الوطن السليب" دون جدوى. وأخيراً أدعو لكم بالتوفيق وسعة الصبر حتى نوفر أسباب النجاح. أدعو للمسلمين بالتكتل وللقيادة بالانسجام والابتعاد عن المركبات سواء كانت مركبات للنقص إزاء العدو باعتباره في منتهى القوة أو مركبات الغرور والتهور والارتماء على الهزيمة المحققة التي يمكن تلافيها بإمعان النظر وهكذا نضمن النجاح".
ردود غاضبة
وبعد خطاب "بورقيبة" قامت قيامة العرب بالتخوين والتجهيل لكل ما هو تونسي، وأصدرت منظمة التحرير الفلسطينية بياناً بتاريخ 23 أبريل 1965 شجبت فيه تصريحات الرئيس "بورقيبة"، وعقد المجلس الوطني الفلسطيني دور انعقاده الثاني في القاهرة خلال الفترة من 31 مايو حتى 4 يونيو 1965 بحضور الرئيس جمال عبدالناصر. وأعلن أن تصريحات الحبيب بورقيبة خيانة عظمى لقضية الفلسطينية وخروج على الإجماع العربي وافتئات على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
الانقسام في القيادة والشعارات
ويطرح استذكار خطاب بورقيبة تساؤلات حول فلسطين اليوم، وما حذر منه "بورقيبة"، حيث تعيش القضية الفلسطينية أسوأ أحوالها في ظل انقسام فلسطيني عمودي في القيادة تسبب في انهيار مصداقيتها أمام العالم، كما أن الشعارات السابقة التي رفعتها الشعوب العربية هي نفس الشعارات التي تطرح اليوم، ولم تزد القضية الفلسطينية إلا سوءاً.
ويدرك العارفون بالقضية الفلسطينية أن القرار الأمريكي الأخير في ضم القدس والجولان للكيان الإسرائيلي مخالفة لجميع مقررات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فأمريكا نفسها التي اعتبرت حركة طالبان إرهابية وقاتلتها سنوات عديدة قتالاً مريراً تُجري الآن مفاوضات معها خلف الأبواب المغلقة؛ لإشراكها في الحكم في أفغانستان.
وتستطيع الحكمة والهدوء والقيادة الموحدة الواعية وسياسة المراحل، عمل الكثير.. هذا ما تفتقده فلسطين وتحتاجه الآن.