"قبسات بلاغية" يستعرض "التقديم والتأخير" في القرآن.. مرونة اللغة وتنوع أساليبها

يعدّ من أهم وجوه إعجاز النظم في الكتاب الكريم
"قبسات بلاغية" يستعرض "التقديم والتأخير" في القرآن.. مرونة اللغة وتنوع أساليبها

التقديم والتأخير من أهم وجوه إعجاز النظم في القرآن الكريم؛ لأنه أحد طرق الكشف في هذا الكلام المعجز، وينصّ الإمام عبد القاهر الجرجاني على أهمية هذا الأسلوب؛ يقول: "هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفتر لك عن بديعة، ويقضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرًا يروقك بسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك، ولطف عندك أن قدَم فيه شيء، وحوَّل اللفظ عن مكان إلى مكان".

وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية السادسة عشرة من "قبسات بلاغية"، الحديث عن بعض من بلاغة "التقديم والتأخير" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد زيد بن فرج الخريصي.

وقال "الخريصي": "يتألف الكلام من كلمات تبرز لنا الجملة الاسمية، نحو: عمر طالب مجد، أو الجملة فعلية، نحو: جاء عمر من المسجد، أو شبه الجملة، نحو: في المسجد أحمد، أو: أمامك أحمد، وهذه الجمل التي ذكرت إما أن تتكون من "مبتدأ وخبر"، وهذه الجملة الاسمية، وإما أن تتكون من "فعل وفاعل"، وهذه الجملة الفعلية، وإما أن تكون شبه جملة، وذلك إذا بُدئت بجار ومجرور، أو ظرف".

الأصل في الكلام

وأضاف "الخريصي": أن الأصل أن يأتي المبتدأ متقدمًا على الخبر، والفعل على الفاعل، وأن يتأخر الحال، وهكذا دواليك مما له حق الصدارة في الكلام، ولا يمكن أن يتقدم جزء على جزء إلا لغاية يطلبها السياق، وهذه دلالة واضحة وجلية على مرونة العربية، وتنوع أساليبها.

ويقول الدكتور عبد العزيز عتيق: "تقديم جزء من الكلام أو تأخيره لا يرد اعتباطًا في نظم الكلام وتأليفه، وإنما يكون عملًا مقصودًا يقتضيه غرض بلاغي أو داعٍ من دواعيها، وقبل الشروع في بيان هذه الدواعي وتفصيلها ينبغي التنبيه إلى أن ما يدعو إلى تقديم جزء من الكلام هو هو ذاته ما يدعو إلى تأخير الجزء الآخر، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يكون هناك مبرر لاختصاص كل من المسند إليه والمسند بدواعٍ خاصة عند تقديم أحدهما أو تأخيره عن الآخر؛ لأنه إذا تقدم أحد ركني الجملة تأخر الآخر، فهما متلازمان".

الإنس والجن

وأردف دكتور البلاغة والأدب: "وللتقديم والتأخير في القرآن الكريم أسرار بلاغية متنوعة تفهم من السياق، ومن الشواهد ما جاء في قول الله تعالى: "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" "الإسراء: 88"، وقول الله تعالى: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ" "الرحمن: 33"؛ حيث قدم الإنس على الجن في الآية الأولى، وقدم الجن على الإنس في الآية الأخرى، فما السّر من وراء هذا التقديم؟ قدم الإنس على الجن؛ لأن الإنس هم المقصودون بالتحدي أولًا فقدموا، وقدم الجن على الإنس؛ لكونهم أقدر وأقوى من الإنس من النفوذ من أقطار السماوات والأرض".

إبراهيم وموسى عليهما السلام

وأتبع "الخريصي": "ومن الشواهد قول الله تعالى: "إن هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ" "الأعلى: 18-19"، وقول الله تعالى: "أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ" "النجم: 36-37"؛ حيث قدم نبي الله إبراهيم عليه السلام، على موسى عليه السلام؛ لأنه الأسبق، وهذا التقديم لا إشكال فيه، إنما المُشكل تقديم موسى عليه السلام، على إبراهيم عليه السلام، فما السّر في ذلك؟ يقول الزركشي: "إنما قدّم ذكر موسى لوجهين: أحدهما أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك، وكانت صحف موسى منتشرة أكثر انتشارًا من صحف إبراهيم، وثانيهما: مراعاة رؤوس الآي".

المشي

وقال: إن من الشواهد قول الله تعالى: "واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ فَمِنهم مَن يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" "النور: 45"؛ حيث قدم الذي يمشي على بطنه على ما يمشي على رجلين أو أربع، فما السّر من هذا الترتيب؟ يقول الفخر الرازي: "قَدَّمَ ما هو أعْجَبُ وهو الماشِي بِغَيْرِ آلَةِ مَشْيٍ مِن أرْجُلٍ أوْ قَوائِمَ، ثُمَّ الماشِي عَلى رِجْلَيْنِ، ثُمَّ الماشِي عَلى أرْبَعٍ".

النحل

وختم "الخريصي": ومن الشواهد قول الله تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ" "النحل: 68"؛ حيث أخر النحل عن ألبان الأنعام، والخمر، في قول الله تعالى: "...نسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ" "النحل: 66"، وقول الله تعالى: "وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا..." "النحل: 67"، والسّر في هذا التأخير، يقول البقاعي: "إنَّه لَمَّا كان أمرُ النَّحلِ في الدَّلالةِ على تَمامِ القُدرةِ، وكَمالِ الحِكمةِ، أعجَبَ مِمَّا تقَدَّمَ وأنْفَسَ، ثلَّثَ به وأخَّرَه؛ لأنَّه أقَلُّ الثَّلاثةِ عِندَهم، وغيَّرَ الأُسلوبَ وجعَلَه مِن وَحْيِه؛ إيماءً إلى ما فيه من غَريبِ الأمرِ، وبَديعِ الشَّأنِ".

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org