لا تُذْكَر عبادة الأصنام في جزيرة العرب، إلا إذا قُرِن اسمه بنشأتها وانتشارها، فهو أول من جلب الأصنام إلى الجزيرة العربية، وأغرى الناس بعبادتها، مستغلاً شخصيته المؤثرة كزعيم لمكة نافذ الكلمة، وما كان ينعم به من ثراء لم يصل إليه أحد، فقد بلغ ما يملك من الإبل فقط 20 ألف ناقة، وقد كانت جزيرة العرب قبله على دين نبي الله إبراهيم، فلما هزمت قبيلته خزاعة، قبيلة جرهم التي كانت صاحبة الولاية على البيت الحرام، ونزعت منها الولاية، ونُصِب هو كبيراً لخزاعة وزعيماً لمكة، حدث التحول الخطير في التاريخ الديني للجزيرة، فمن هذا الزعيم القبلي؟ ومن أين أتى بالأصنام؟ وكيف نشرها؟ وماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن مصيره الأخروى؟
أول من جلب عبادة الأصنام إلى جزيرة العرب ونشرها بين قبائلها، هو عمرو بن عامر بن لحيّ الخزاعي، وتتفق حول ذلك كل الروايات التاريخية، ومنها رواية المؤرخ أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار"، التي ذكر فيها أن "عمرو بن لُحَي هو الذى بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وسيّب السائبة (الإبل الموقوفة للأصنام)؛ ونصب الأصنام حول الكعبة، وجاء بهُبَل من هيت من أرض الجزيرة، فنصبه في بطن الكعبة، فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو أوّل من غير الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، وكان أمره بمكة في العرب مطاعاً لا يُعصى"، وتشير الرواية إلى مكانته القبلية الرفية، وكلمته النافذة على قبائل العرب.
ولم يكن عمرو بن لحيّ في بداية حياته وثنياً، وكذلك قبيلته خزاعة عند انتقالها من اليمن، واستقرار المقام بها في مكة، وقد حدث التحول لعمرو بن لحيّ، وللجزيرة العربية في إثره خلال رحلته إلى بلاد الشام، في أول فترة حكم ملك الفرس سابور ذو الأكتاف، الذي عاش في الفترة من 306م – 379م، بحسب ما ذكر أبو الفتح الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل"، ويورد عبدالملك بن هشام مشهد التحول في كتابه "السيرة النبوية" بالقول: "حدّثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لُحَي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكة فنصبه أمام الكعبة، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه".
وسعى عمرو بن لحيّ إلى نشر عبادة الأصنام في ربوع الجزيرة العربية كلها، فاستغل قدوم وفود القبائل إلى الحج وفرضها عليهم، وقد ذُكر أن رفيقه من الجن دلّه على المكان، الذي دفنت فيه أصنام قوم نوح في جدة وهي: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، فاستخرجها، ووزعها على القبائل في موسم الحج، فكان "سواع" لهذيل، و"يعوق" لهمدان في اليمن، و"نسر" لحِميْر"، و"ود" لكلب، و"يغوث" لبني غطيف، وقد استمرت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية حتى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشار الإسلام، وإزالة الصحابة للأصنام من الجزيرة أثناء فتحها، أما عن المصير الذي سيؤول إليه عمرو بن لحيّ؛ جزاءً له على نشر الوثنية، فقد أخبر عنه الرسول في الحديث، الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بنَ عامِرٍ الخُزاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ (أمعاءه) في النَّارِ".