"الذكر والحذف" في القرآن.. إعجاز في البناء وامتحان للمخاطب

في حلقة "سبق" الرمضانية "21" مع دكتور البلاغة والأدب "زيد الخريصي"
"الذكر والحذف" في القرآن.. إعجاز في البناء وامتحان للمخاطب

للقرآن الكريم خصائص كثيرة، منها الإعجاز الذي تنوّعت وجوهه؛ فكل شيء فيه لا نظير له؛ فهو باهر في ألفاظه وأسلوبه، وتأليفه ونظمه، وبيانه وبلاغته، وتشريعه وحكمه، والمتأمل في آياته والمتدبّر لمعانيه يُدرك كيف حيّر الألباب في أنبائه وأخباره، وفي تاريخه وحفظه، وفي علومه التي لا تنقطع ولا تقف عند غاية.

وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "الواحدة والعشرين" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعض من بلاغة "الذكر والحذف" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".

قال "المتخصص": لا تكاد تخلو الجملة في العربية، من الوصل والفصل، أو التقديم والـتأخير، أو التعريف والتنكير، أو الذكر والحذف، وغيرها من الأساليب التي تعتري الجملة، وهذه دلالة على مرونة العربية، وتنوع أساليبها.

عناية البلاغيين

وأضاف: عني البلاغيون بهذين الأسلوبين (الذكر والحذف)، حتى إن ابن جني أطلق مصطلح (شجاعة العربية) على الحذف، ومعنى هذا المصطلح؛ أي: أن اللغة العربية لغة شجاعة يحذف بعض أجزائها، وتدل على معنى؛ فحينما أقول: سافرَ إلى مكةَ، نجد أن معنى هذه الجملة اكتمل، مع أن الفاعل (هو/محمد/المسافر) غير موجود في الجملة، وهذه هي الشجاعة المقصودة.

الأصل في الذكر والحذف

وأتبع "دكتور البلاغة والأدب": الأصل في الكلام الذكر، أو بعبارة أدق الأصل في الكلام ذكر ما يحتاج إلى ذكر، وحذف ما يحتاج إلى حذف، ومرجع ذلك إلى السياق؛ ويمكن أن يذكر الشيء مع إمكان حذفه، ويحذف الشيء مع إمكان ذكره وهذا خلاف الأصل؛ لأسرار ولطائف تفهم من السياق.

وواصل "الخريصي": لا يلجأ إلى الحذف إلا بتحقيق شرطين اثنين: الأول: وجود قرينة تدل على المحذوف، والثاني: وجود غرض بلاغي يحققه هذا الحذف، فحينما أقول: مَنْ حضر؟ تقول: زيد، لا داعي لأن تقول: حضر زيد، أو الذي حضر زيد؛ لأن (زيداً) جواب اقترن بصيغة السؤال: (من حضر؟) فليس هناك سبب لأن تذكر (حضر زيد)؛ لأنها مذكورة في صيغة السؤال، والسؤال والجواب مقترنان، ولذلك هنا يصح الحذف، وإذا ذكرت فذكرك هنا يكون مخالفاً للأصل، مع جوازه لغرضٍ يريده المتكلم؛ إما للعناية والاهتمام بزيد، أو لتأكيد حضور زيد، أو غير ذلك من الأغراض.

وأرف قائلاً: كانت العرب تؤثر الحذف، وهو من سَننهم في كلامهم، لذا اشتهرت لديهم الكثير من الأقوال المشهورة، التي تدل على إيثارهم الحذف على الذكر، ومن جملة ما قالوا: (رُبَّ صمتٍ خيرٌ من كلامٍ)، (ورُبَّ إشارةٍ أبلغُ من عبارةٍ)، و(رُبَّ مسكوتٍ عنه أولى من منطوقٍ به)، (وخير الكلامِ ما قلَّ ودلَّ، ولم يطلْ فيملَّ).

آيات وشواهد

وعن الشواهد القرآنية، استعرض "الخريصي": قال تعالى على لسان ذي القرنين: {آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: ٩٦-٩٧]، فما السّر من حذف التاء في قوله: {استطاعوا}، يقول الأستاذ الدكتور/فاضل السامرائي: "قال: (فما اسطاعوا أن يظهروه) أي: يصعدوا عليه، فحذف التاء، والأصل: (استطاعوا)، ثم قال: (وما استطاعوا له نقباً) بإبقاء التاء؛ لأنه لما كان صعود السد الذي هو سبيكة من قطع الحديد والنحاس أيسرُ من نَقْبهِ وأخف عملاً، خَفَّفَ الفعل للعمل الخفيف، فحذف التاء، فقال: (فما اسطاعوا أن يظهروه) وطَوَّلَ الفعلَ فجاء بأطول بناء له للعمل الثقيل الطويل فقال: (وما استطاعوا له نقباً) فحذف التاء في الصعود وجاء بها في النقب".

وأتبع "دكتور البلاغة والأدب": ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ...} [البقرة: ٢٨٣]، يكتمل معنى الآية بحذف {قَلْبُهُ}، إلا أنه ذكر والغرض من هذا الذكر، يقول الزمخشري: "فإن قلت: هلّا اقتصر على قوله: (آثم) وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثماً مقترناً بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يُعمَلُ بها أبلغ؛ ألا تراك تقول إذا أردتَ التوكيد: هذا مما أَبصرتهُ عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله فكأنه قيل: فقد تَمكَّنَ الإثمُ في أصل نفسه ومَلَكَ أشرف مكان فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط".

وختم بقوله: ومن ذلك ما رود في قصة نوح وهو قوله تعالى: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: ٦٠]، وفي قصة هود قوله: {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} [الأعراف: ٦٦]، حيث زاد (الذين كفروا) على ملأ قوم هود دون ملأ قوم نوح؟ قال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ وصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم: (مرثد بن سعد) الذي أسلم وكان يكتم إسلامه، فأُريدت التفرقة بالوصف، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن".

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org