أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن حميد، المسلمين بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، فتقوى الله خير زاد وهي الرشاد والنجاة يوم المعاد.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: من ملك من الدنيا ما شاء، خرج منها كما جاء، يتواضع المتواضع لأنه واثق في نفسه، ويتكبر المتكبر لأنه عالم بنقصه. وإذا كرهت أحدًا فمن المروءة ألا تجعل الآخرين يكرهونه، فقد يكون الخلل منك، فدع الخلق للخالق، والسعادة -حفظك الله- تتحقق بقلب لا يحقد، ونفس متفائلة غير متشائمة، وصداقة لا تنتظر الجزاء قال تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} النحل: ٩٧.
وأضاف: القيم والأخلاق ركيزة من ركائز البناء الإنساني، وركن ركين من بنيان السلوك البشري، يمس جميع مظاهر السلوك في الفرد والمجتمع، ركيزة ركينة توجه السلوك إلى الخير، وتحفز إلى الترقي في مراتب الكمال، والسير نحو مراقي السمو، وبها يكون السعي الجاد الصحيح إلى معالي الأمور ومحاسن الأعمال، إنها خصلة بل خصال إذا سادت في الناس عاشوا في أمن واستقرار، وتكاتف وتعاون، خصال تبني الشخصية، وتقوّي الإرادة، وتحفظ الأمن، وتقي الشرور، وتصحح الأخطاء، قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} آل عمران: ١٥٩.
وأردف: قيم أهل الإسلام تنبع من دينهم وعقيدتهم، والأحكام الشرعية التي تحكمهم، ونظرتهم إلى الحياة الدنيا، ومصيرهم في الحياة الأخرى ومن أدق التعريفات للقيم وأجملها وأصدقها هي: "الصفات التي يحملها المرء ويعامل بها غيره"، يقول عبدالله بن المبارك: "كاد الأدب أن يكون ثلثي الدين"، ويقول الحافظ ابن رجب: "يظن كثير من الناس أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده"؛ بل قال رحمه الله: "والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًّا، لا يقوى عليه إلا الكمل من الأنبياء والصديقين".
وأشار "ابن حميد" إلى أن الناس لا يرون من إيمانك ولا عبادتك، إلا بما يرونه من خلقك وسلوكك وتعاملك؛ فالدين مقرون بالمعاملة؛ فقبل أن يكون المصحف في الصدر أو في الجيب فليكن في الخلق والعمل، وقبل أن يحدث المرء الناس عن الدين وسماحته وكماله، فليحدثهم بسلوكه وذوقه، وتعامله، والمعيار الدقيق والميزان الصادق في ذلك كله، "أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأن تأتي الناس بمثل ما تحب أن يأتوا إليك". كما صحت بذلك الأحاديث والتوجيهات من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وتساءل خطيب الحرم المكي: أين الدين من رجل صاحب عبادة: من الفرائض، والنوافل، والصدقات ولكنه يظلم هذا، ويماطل في المرتبات هذا لا يؤدي حق هذا، يحترم الناس في مقاماتهم، ولا يقدرهم في منازلهم، يتخطاهم بوقاحته، وينظر إليهم شزرًا واحتقارًا بكبريائه، تذكروا حديث المفلس الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال، وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، تذهب حسناته كلها، ثم يلقى في النار نسأل الله العافية.
وأضاف: المجتمع يتقوى ويتحصن بتنشئة الأجيال على معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، وإبراز القدوات الصالحة، وإذا كان ذلك كله فإن محاضن التربية هي: البيت، والمدرسة، والمسجد، والمجتمع، والإعلام، والتعليم بدرجاته ومراحله، وصلاح الأولاد نعمة عظيمة ومنة جليلة، والبقاء حقًا هو للأقوى خلقًا.
ودعا "بن حميد"، في خطبته، الآباء والأمهات والمربين إلى تعليم الناشئة أن الدين خلق كله، وأن من زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين، ربوهم على أن الدين ابتسامة وسرور، وليس جهامة ولا عبوسًا، الدين بِشر، وسكينة، وطمأنينة، والتبسم صدقة وعبادة، علموهم أن يكلموا الناس ووجوههم إليهم منبسطة، وكلماتهم لهم لطيفة، علموهم أن صلاح القلب بسلامته من الحسد، والحقد، والرياء، والغلظة، ليكون قلبًا صادقًا، سليمًا، محبًّا لكل الناس، ربوا الناشئة على أن العبادة كما هي في المسجد فهي في الشارع حين تقضي مصالح الناس وحاجاتهم، وحين تلقي السلام على من عرفتَ ومن لم تعرف، وفي المكاتب ومقرات العملُ حين يلتزم بالنظام والتعليمات واحترام المراجعين، وفي وسائل النقل والمركبات حين توقر الكبير، وترحم الصغير، وتعطف على ذي الحاجة، وتعين الملهوف، وتساعد العاجز، وفي الأسواق حيث وفاء المكاييل والموازيين، وإعطاء كل ذي حق حقه، والبعد عن الغش، والتدليس، والأيمان الكاذبة.. علموهم أن الله وحده هو الرقيب الحسيب على عباده، فليسوا أوصياء على الناس، قال تعالى: {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء} الأنعام: ٥٢.. وبينوا لهم أن من ضعف الخلق الانشغال بعيوب الناس عن عيوب النفس.. علموهم أن التسامح ليس ضعفًا ولا هوانًا؛ بل هو قوة وشهامة وعزة وربوهم على الاعتذار عن الأخطاء، والتماس الأعذار.. علموهم أن الاعتذار شجاعة، ونبل، ومروءة.
كما دعا إلى تعليم ثقافة الاختلاف في الرأي، وأن ما يقوله صواب يحتمل الخطأ، وما يقوله صاحبه خطأ يحتمل الصواب، وأن ما يراه هو خطأ لا يراه غيره كذلك؛ بل يراه عين الصواب وتعليمهم كذلك حينما يرون عمالًا كادحين يسعون في رزقهم من الصباح الباكر أن يرفقوا بهم، ويدعوا لهم برزق واسع، وعمل كريم، وأن ييسر الله أمورهم، ويبارك لهم في أرزاقهم، وإن استطاعوا أن يعينوهم ويخففوا عنهم؛ فليبادروا.. وعليهم ببذل المعروف، والعفو، والجود، والصبر، والرحمة، والتودد، ولين الجانب، واحتمال الأذى، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وكسوة العاري، والإنصاف، وقلة الخلاف، ولطف الكلام مع من عرفت ومن لم تعرف، واحترام القريب والغريب، والأدب مع الصغير والكبير، والمشاركة في الأحزان وفي الأفراح، وحسن التعامل مع كل أحد كائنا من كان. مساعدةً في المشكلة، ومؤازرةً عند المحنة، وملاطفةً في المعاملة.
وأكد إمام وخطيب المسجد الحرام أنه لا يكون الظلم والتظالم، ولا القتل والاستبداد؛ إلا حين تفقد القيم، وحين تسود المصالح الضيقة وتكون الأنانية هي الغالبة والحاكمة، كم من القتلى، وكم من الجرحى، وكم من التدمير والتعسف، بسبب الأنانيات القاتلة، والأهواء الطاغية.. وتذبل القيم، وتذبل الأخلاق، إذا ضعف التدين، وساء الخلق وحينئذ فسترى عقوق الوالدين، والغش، وتضييع الأوقات، ونبذ الحشمة والعفاف، وسيئ الخلق يعيش أزمة قيم إيمانية لا قيم مادية، إنه الفصل بين العلم والعمل، والإيمان والمبادئ، فاقد القيم متذبذب مشتت: قال تعالى: {أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أمن يمشي سويًّا على صراط مستقيم} الملك: ٢٢.
واختتم بالقول: اعلموا أن بقاء الأمم ببقاء أخلاقها، وذهابها بذهاب أخلاقها، لم تذهب أمم ولم تدمر حضارة بسبب ذهاب ذكائها، أو علومها، أو قلة عددها، ومن أهمها ذهاب الخصوصية الأخلاقية للأمة، ومن ثم سيطرة أخلاق الأمة الغالبة.