تحتضن المدينة المنوّرة؛ قلب التاريخ الإسلامي، عديداً من المعالم الجيولوجية الفريدة التي تُشكل مَشهداً بديعاً يُحيط ويتمازج بها جغرافيًّا، حيث تُزيّن أرض المدينة ما يُعرف بـ "الحرّات البركانية"، تلك السهول السوداء التي نشأت نتيجة انفجارات بركانية قديمة، في ظل قباب الجبال المحيطة وهضابها، وتقف هذه الحرّات شامخةً كلوحةٍ من الصخور البازلتية، تخبرنا بقصة تطوّرٍ جيولوجي استمر على مدار آلاف السنين، لترسم بذلك مشهداً آسراً قلَّ أن تراه في مكان آخر يمتزج فيه جمال الطبيعة مع عبق التاريخ.
وتُعد حرّة "رهط" أحد أكبر الحقول البركانية الممتدة من شمال مكة المكرّمة، حتى تنتهي بالمدينة المنوّرة، ولابة هذه الحرّة تنقلك عبر الأزمنة الجيولوجية في لحظاتٍ، فتقف على لابة ثار بركانُها قبل ملايين السنين وأخرى قبل آلاف الأعوام، وعلى بُعد عشرات الأمتار تجد اللابة التي تكوّنت في آخر ثوران بركاني ظهر في الركن الجنوبي الشرقي من المدينة المنوّرة سنة 654هـ.
يقول الباحث في تاريخ المدينة المنوّرة ومعالم السيرة النبوية عزالدين المسكي؛ إن عشرات الفوهات البركانية تنتشر على بساط حرّة رهط لتُشكّل مع لابتها لوحة طبيعية متفردة في مكوناتها ومظاهرها المختلفة، حيث تشكّلت اللابة عند تبريدها على هيئة أنابيب طولية ممتدة عشرات الأمتار، وكذلك على هيئة وسائد وأخرى كأنها أمواج البحر، إضافةً إلى التجويفات والكهوف التي تكوّنت إما مع سيلان اللابة أو بفعل عوامل التجوية والتعرية عبر الزمن، لافتاً إلى أن الثورات البركانية لا تنفك من هزات أرضية نتج عنها عديدٌ من الشقوق في قشرة الأرض، التي تجد العديد منها في هذه الحرّة، كما أن لابة البركان الذي ثار قبل ما يقارب 800 سنة تُعطي منظرًا مهيبًا للحرّة في لونها الأسود الداكن، وفي اللابة المسنّنة التي تُشبه الأنياب الحادة، فتُجبر سالكها قديمًا على قطعها مترجلًا على قدميه، وفي مظهرٍ فريدٍ نجد هذه اللابة عندما وصلت منطقة حوض العاقول التي كانت تسمى قديمًا حبس سيل، دهمت سدًّا قديمًا مبنيًّا بحجارة الحرة وطوب الآجر الأحمر، فتداخلت اللابة بين الحجارة والطوب، فأصبحت كأنها المادة اللاحمة بين أجزاء السد.
ويؤكّد "المسكي"؛ أنه رغم وعورة هذه الحرّة في بعض أجزائها، غير أنها لم تمنع الإنسان منذ القِدم من التكيُّف معها والعيش في كنفها، مستفيدًا من مخزون مياهها وخصوبة تربتها، فنشأ عديدٌ من الواحات الزراعية الضاربة في عمق التاريخ، وأمامنا الكثير من المذيلات والدوائر الحجرية التي تدل على قدم الاستيطان البشري في هذه الحرّة، التي وفرت أيضاً المواد الأولية للبناء، فمن صخورها البازلتية بنى الإنسان البيوت والحصون، ونحت عديداً من الأدوات، مثل الرحى وغيرها، مُشيرًا إلى أن أشهر أجزاء حرّة رهط هو في نهايتها الشمالية، حيث أحاطت المدينة المنوّرة من ثلاث جهات، فالشرقية منها تُسمى حرّة واقم، والغربية تدعى حرّة الوبرة، وتتصلان من الجنوب بحرّة تُسمى حرة معصم العليا، وهاتان اللابتان الشرقية والغربية كانتا علامة مميزة للمدينة، حيث رآها الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قُبيل هجرته للمدينة، فقال: («أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ» - صحيح البخاري).
وأبان الباحث في تاريخ المدينة ومعالم السيرة النبوية عزالدين المسكي؛ أن هذه الحرّات كانت حصنًا طبيعيًّا منيعًا للمدينة المنوّرة، ووصف حسان بن ثابت -رضي الله عنه- هذا المظهر الطبيعي للمدينة فقال:
"لنا حرة مأطورة بجبالها .. بنى المجد فيها بيته فتأهلا
بها النخل والآطام تجري خلالها .. جداول قد تعلو رقاقا وجرولا"
بدوره، يؤكّد أستاذ الجغرافيا الطبيعة بجامعة القصيم "سابقًا" ونائب رئيس جمعية الطقس والمناخ الأستاذ الدكتور عبدالله المسند؛ أنه تجثم فوق أرض السعودية مئات البراكين الخامدة منذ آلاف السنين، مُشيرًا إلى أنه يُقدر وقت نشوئها قبل ما يقرب من 25 مليون سنة مضت -والله أعلم-، حيث يبلغ عدد البراكين في حرّة خيبر فقط نحو 400 بركان، وفي حرّة رهط بين مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة نحو 700 بركان، وعلى مستوى المملكة نحو 2000 بركان.
وأوضح أن البراكين في السعودية شكّلت عبر تاريخها الطويل 13 حرّة رئيسة، ناتجة عن تدفقات بركانية عظيمة وقديمة، وأحدث بركان انفجر في أرض الحجاز بركان جبل الملساء الواقع جنوب شرقي المدينة، وذلك عام 654هـ 1256م، واستمر ثورانه لعدة أيام، وسارت الحمم البركانية لمسافة 23كم، وتوقف أطول لسان للحمم البركانية قبل مسجد رسول الله -ﷺ- بنحو 8.2 كم، مُشيرًا إلى أن أعمق الفوهات البركانية بالسعودية فوّهة بركان الوَعَبة (مَقْلع طِمِيّة) عمقها نحو 220م، وقطرها نحو 2000م، يقول إنه ينتاب المشاهد شعور مخيف، وهو يشاهد أعظم فوهة بركان بالسعودية، فوهة الوعبة بحرة كشب- شمال شرقي الطائف، حيث تستطيع مساحة الفوهة أن تستوعب نحو 190 ملعبًا رياضيًّا، وبعبارة أخرى تستوعب أكثر من 170 ألف سيارة (فوهة بركان واحد فقط!).
وقال "المسند"؛ إن "السعودية" تُعد من أكثر الدول العربية في عدد البراكين الخامدة، مُشيرًا إلى أن حرّة بني رشيد (حرّة خيبر) تُعد من وجهة نظره الأغرب بين 13 حرّة في السعودية، وهي أجمل حديقة بركانية متنوّعة التضاريس ومتنوّعة الألوان بطريقة تجعلها قبلة سياحية عالمية مستدامة.