
في قلب نفود الثويرات، وعلى أطراف محافظة الزلفي بمنطقة الرياض، تقبع قرية العقلة الأثرية، شاهدة على حياة أجيال مضت، ومحتفظة بأطلال بيوتها ومسجدها ونقوشها الأصيلة، وسط كثبان رملية ضخمة تحاصرها من كل جانب.
القرية الصغيرة، التي تأسست بحسب روايات محلية في مطلع القرن الرابع الهجري ، تحولت اليوم إلى إرث تاريخي وتراثي تتطلع المحافظة إلى إحيائه وتوظيفه في خدمة السياحة والذاكرة الوطنية.
تعود تسمية "العقلة" إلى معنى يرتبط بالماء والراحلة، إذ شبّهها الأهالي بـ "عقال الراحلة" الذي يؤخذ به الماء من آبارها لقرب مناله.
العقلة تقع في حفرة طبيعية عميقة، وسط رمال النفود، ما جعلها أقرب إلى «الأحساء» الصغيرة داخل الصحراء، مصدر حياة وملجأ عابرين ومستقرين على حد سواء.
تُجمع الروايات المحلية على أن العقلة نشأت في مطلع القرن الرابع الهجري، ضمن أكثر من مئة واحة متناثرة في نفود الثويرات ، سكنها عدد من الأسر الكريمة، منها: الفالح، العبدالقادر، الملحم، العوّاد، الحميدي، ثم التحق بهم غيرهم، ومنهم أسرة الطيار.
كانت الحياة بسيطة، تعتمد على رعي الأغنام، وزراعة النخيل والخضراوات والحبوب، خصوصًا القمح.
وقد اشتهر أهلها بالتعاون والتكافل؛ يبنون بيوت بعضهم، ويساعدون المحتاج، ويتكاتفون في المناسبات الاجتماعية.
شهدت "العقل" ذروة استيطانها قبل نحو 150 عامًا، حينما ضمّت قرابة 12 أسرة أقامت بيوتها وجلبت المياه من آبارها. غير أن عجلة التطور دفعت السكان إلى الهجرة تدريجيًا نحو مدينة الزلفي والمدن الكبرى، حتى كانت سنة 1402هـ شاهدًا على رحيل آخر أسرة.
ومع أن "العقل" فقدت سكّانها الدائمين، إلا أن مبانيها ومسجدها ظلّت قائمة، تروي قصة الماضي.
في وسط القرية، يتربع مسجد أثري صغير الحجم، لكنه غني بالنقوش والزخارف التقليدية، شكّل قلب الحياة الروحية والاجتماعية لسكان العقلة.
كان المسجد يحتضن حلقات العلم والدروس القديمة، ولا يزال إلى اليوم رمزًا لهوية المكان، وقد حظي بإعادة ترميم جزئي على يد بعض أبناء الأسر التي سكنته.
رغم صغر حجمها، أنجبت العقلة رجال علم وقضاء وأساتذة جامعات. من بينهم:
الشيخ محمد السليمان البدر – رئيس المحكمة الكبرى بالرياض سابقًا (رحمه الله) ، والدكتور ناصر الفالح ، والدكتور محمد آل عبدالقادر ، والدكتور عبدالله الطيار ، والدكتور محمد الفالح.
كما برز اسم رجل الأعمال الدكتور ناصر بن عقيل الطيار، أحد أبناء أسرة الطيار، الذي تبنّى مبادرات لإعادة تأهيل العقلة وتحويلها إلى وجهة سياحية وتراثية.
العقلة ليست سوى واحدة من مئات "العُقل" المنتشرة في نفود الثويرات. هذه الواحات الصغيرة، التي أنشأها الأهالي وحملت أسماء أسرهم، تحولت بعضُها إلى قرى مأهولة، فيما اندثر بعضها الآخر. الزلفي والمذنب تُعدان من أكثر المدن السعودية قربًا من هذه الواحات، التي ما زالت تشكل إرثًا طبيعيًا وثقافيًا فريدًا وسط الرمال الحمراء.
باتت العقلة ومثيلاتها وجهة لرحلات الصحراء والاستكشاف، حيث ينظم مستثمرون رحلات سياحية نحو هذه الواحات للاستمتاع بجمالها الأخّاذ ، غير أن المواقع تعاني نقص الخدمات: لا مظلات، ولا مرافق صحية، ولا لوحات إرشادية أو طرق ممهدة بشكل كافٍ.
هذا النقص يجعل الزيارة صعبة في الصيف ومرهقة للزوار، رغم أن الصور والمشاهد الطبيعية تجذب الكثيرين.
بعض الأسر أعادت إحياء مزارعها وبنت استراحات حديثة، لتكون ملتقى للأبناء والأحفاد، وأضحت بعض "العُقل" تؤدى فيها صلاة الجمعة حتى اليوم.
من أبرز المخاطر التي تواجهها " العقل" :
الزحف الرملي: الكثبان المتحركة تهدد المباني والأطلال.
الاندثار الأثري : عمليات ترميم عشوائية قد تمحو دلائل تاريخية مهمة.
غياب البنية التحتية: ضعف المرافق السياحية يجعل الاستثمار محدود الجدوى.
من أهم التوصيات لإحياء " العقل " التاريخية : مسح أثري شامل يوثق المباني والنقوش والآبار ، وخطة تطوير سياحي متكاملة تشمل مسارات للزوار ومرافق أساسية ، ومشاريع سياحة مجتمعية تشرك الأهالي في إدارة الموقع واستثماره ، وحماية بيئية عبر مصدات نباتية وإجراءات لمنع الزحف الرملي ، وتوثيق التاريخ الشفهي لكبار السن، وتحويله إلى مادة معرفية للأجيال.
العقلة الأثرية ليست مجرد قرية مهجورة؛ إنها شاهد حي على تاريخ الزلفي، ودليل على صمود الإنسان في قلب الصحراء. إعادة إحيائها لا تعني فقط حفظ أطلال الماضي، بل استثمار في مستقبل سياحي وثقافي يُعيد للمنطقة مكانتها، ويمنح أبناءها مصدر فخر واعتزاز.