المثقف البرجوازي...!

المثقف البرجوازي...!
تم النشر في
(يتأكل) على مجد أبيه، فيلُم ويشجع ويتحكم ويدعم، ويبادر... ولكن ما إنْ يتحدث أو يكشف عن مدى وعيه واطلاعه إلا وتتجلى حقيقته المخفية للناس، وأنه لا يعدو (مجرد محب)، أو (مستثمر)، ما ينبغي له أن يتجاوز مقدار ذلك الحب! فيُزري من نفسه، أو يُهين كرامتها! والمستحسن له أن يبقى راعياً ومشجعاً وداعماً...!
لأن أكثر "البرجوازيين" يرجعون إلى أسر مرموقة، تملك من الأموال والعقار ما لا يملك الآخرون، (فنهضتهم التاريخية) ومجدهم المحمود هو في تبني تلك المشاهد الثقافية، ودعمها، وتهيئة الأمناء والأكفاء لها...! لا أن يزجوا بنفوسهم، وهم لم يتأهلوا، أو يورطوا عقولهم، ولم يتطوروا...! فذلك مُضرٌّ بهم وبمكانتهم...!
ويدهشك أنك قد تجد من المحدودين من يتقمص تلكم الشخصية، وهو منها عَري، كما صح في الحديث "عائل مستكبر" من الثلاثة المنبوذين يوم المعاد!!
وسواء كانت تلك المشاركة دعوية أو ثقافية أو فكرية أو إعلامية...! ما لم تتأهل لا تتقدم وتستعجل...!
وهذا الحبر عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - لم يركن لنسبه الشريف، بل انطلق جادًّا باحثاً عن المعرفة والفقه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمره ثلاث عشرة سنة، محتملاً المشاق حتى بلَّغه الله المبلغ، ورقى المعالي، حتى اجتمع الناس عليه، وقال جاره المثبط له أولاً "هذا الفتى كان أعقل مني"... حتى اجتمع الناس عليه!!! والمفاد هنا أن عراقة النسب لا تدفع خساسة الجهل "ومن بطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه"... ولذلك لا بد من جد وتعب...!
والسبب أنه لا اجتماع بين حياة العلم والرفاهية الطاغية، ولا التصاق بين الفكر و(عقدة الأنا) والاستكبار...!
وإنما يتعلم وينبغ مَنْ تعب وضحَّى، ولان وافتقر غالباً، كما قال الحبر والبحر عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - في حكمة ذائعة له: "ذللتُ طالباً فعززت مطلوباً"!!
وقيل:
 
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ *** الجود يفقر والإقدام قتالُ
لا يدرك المجدَ إلا سيد فطنٌ *** لما يَشق على السادات فعالُ!!
 
وقد يوجد في المترفين عباقرة ومبدعون، لكنهم قلائل بالنسبة لأوساط الناس وعوامهم...!
إذ حياة العلم والفكر والصقل الثقافي تستلزم تضحيات وبسالة خارقة، تدفع بالمزيد والنماء والتحصيل، ولا ترضى بالقليل... كما قيل:
 
قل لمرجّي معالي الأمورِ *** بغير اجتهادٍ رجوتَ المحالا..!
 
وقد قال العالم اللغوي النضر بن شُميل رحمه الله:"لا يصير الرجل عالماً حتى يجوع وينسى جوعه".
وقديماً التصق معنى الفقر وبؤس العيش بالأعلام الفقهاء حتى قال القائل:
 
قلتُ للفقر أين أنت مقيمٌ *** قال في عمائم الفقهاءِ
إن بيني وبينهم لإخاءً *** وعزيز عليّ قطع الإخاءِ؟!
 
وما ذاك إلا بسبب التضحية والمعاناة، والتباعد عن الملاذ، أو حرمانها...!
والأعجب في حال بعض البرجوازيين أنهم - إضافة لما سبق - يمارسون الإقطاع الثقافي، كالإقطاع الأرستقراطي القديم، فيمنحون من شاءوا، ويمنعون من شاءوا، ويُحاكمون إظهاراً وإخفاء، ورفعاً وخفضاً، ودعماً ومحاصرة، وغالب ذلك يدور حول مصالح شخصية صِرفة...!
يجعلون من هواهم الثقافي معبراً لهم لممارسة الكبت والاستبداد والسطحية، كيفما شاءوا. وفي الحقيقة هو تثقف مقصود، وتعلم منقوص، وإشعاع باهت، يعيش مرحلة ما قبل الثقافة، ويتماهى مع أدبيات البرجوازية!
ولذلك أفضل الحلول لشق نسق ثقافي هنا هو امتثال الآتي: 
1- مد الفضاء الثقافي بلا قيود، وتذليل أفق الإبداع وفق الانضباط الشرعي والأخلاقي.
2- استقطاب جميع الطاقات الإبداعية، بلا تخصيص أو محسوبية.
3- الاستثمار الثقافي بحُسن التبني والنشر والطباعة وتأسيس الأندية الفاعلة.
4- حل مشكلات الثقافة والتثقيف وممارسة الذكاء الاجتماعي المحمود، من خلال لجان موقرة، وورش عمل جادة.
5- الإشراف والرعاية، ووضع الخطط والحوافز والجوائز التشجيعية، التي من شأنها بث رسالة الوعي والاهتمام، وأن الأمور ليست مرتجلة، بل تسير في سلك النظام المعتبر.
6- دعم المسحوقين من الفئات الثقافية، وإتاحة المجال أمامهم؛ ليعبروا عن إبداعاتهم ومشاعرهم الصادقة، وعدم المحاباة لطبقة على حساب أخرى!
واعتقاد أن المساحة تتسع لجميع التوجهات، ما دامت سائرة بالانضباط الشرعي والأخلاقي.
ومن الطريف أنه عند فقدان المعايير في التمكين الثقافي، ولعب دواعٍ أخرى غير سديدة، يحمل الناس على السخرية والتندر كما قال بعضهم:
 
بالجاه تبلغُ ما تُريد وإن تُرد *** رتبَ المعالي فليكن لك جاهُ
أو ما ترى الزين الدمشقي قد ولي *** درس الحديث وليس يدري ما هو؟!
 
فيوضع المرء في غير تخصصه، ويمتطي ما لا يحسنه، ويزاحم وهو عديم، ويكافح وهو سليب؛ ما يعني حيازة الإفلاس وجني العجاج؛ ولذلك لا بد من حسن التأهيل، أو البقاء في الدور الإشرافي الراعي والداعم والمعين وفق خطة سديدة... والله الموفق.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org