سلّط أستاذ مشارك الطب الوقائي والصحة العامة، رئيس مجلس إدارة جمعية وعي لصحة المجتمع الدكتور محمود عبدالرحمن، الضوء على تأكيد علماء النفس على أثر التنشئة في المنزل والمقربين خارج المنزل فيما يسمى بالبيئة المحيطة على سلوكيات الشخص مستقبلاً.
وأوضح أن ذلك يبدأ بالطفولة ومرورًا بفترة المراهقة المليئة بحب الاستطلاع والإقدام والمغامرة، ثم مرحلة تكوين الشخصية التي تستمر مع صاحبها باقي حياته ما لم تعصف به مؤثرات فوق الاحتمال أو عوامل مرضية تغير من سلوكياته.
وقال الدكتور "محمود" لـ"سبق": لقد سنحت لي الفرصة أن أكون شاهداً على الأحداث انطلاقاً من عملي بمجمعات الأمل منذ نشأتها تقريباً كمعالج وباحث ومروراً بأدوار إدارية، مما سمح لي بمعايشة العديد ممن ابتلاهم الله بهذا الداء، فلقد عاصرت في المستشفى قصصاً شاب لها شعري، ورأيت في أعين النزلاء ما لا يقال وسمعت ما لا يحكى, وكم دمعت أعيني على شاب كان ينتظره مستقبل مشرق, وكم من مرة كدت أتعرض لإصابة من آخر انتابته نوبة "خرمه"، كما يسمونها، وهي الاشتياق القسري للمخدر, فلقد كدت أضرب بحامل المصحف فجأة, ولقد رأيت الشاب يكسر زجاج مصباح الإنارة ليؤذي نفسه أو الآخرين، ولقد رأيت من يشبه الهيكل العظمي جراء إصابته عدوى متعددة بسبب اكتسابها من خلال سلوكيات الإدمان وطرق التعاطي، وكان الإيدز أحدها.
وأضاف: رأيت من عصف الإدمان بعقله تماماً بسبب تأثيره على خلايا المخ فغدا من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين ادخلوا الإعاقة على أنفسهم من خلال التعاطي، كما رأيت المشلول والمبتور بسبب حوادث تسببت بها قيادته للسيارة تحت تأثير التعاطي, وكما رأيت من تحول لمريض نفسي دائم إلى جانب مرض الإدمان بسبب تأثير المواد التي يتعاطاها ففقد الكثير من قدراته العقلية.
وأردف: بين كل هؤلاء لم تخلُ قصة أحدهم من جانب جنائي تورط فيه بسبب المخدر أو صحبة السوء، وبعضها كان يندي لها الجبين وتقشعر لها الأبدان عن سماعها. وكان خيط الأمل للنجاة من براثن الإدمان عبارة عن معاناة يدفعها من تقييد للحرية ورفض أسري واجتماعي ومشكلات مالية وحياتية متعددة تعصف بها جملة واحدة.
وتابع: كنا كمعالجين نتصيد فرص الرغبة الجادة للتوقف عند كل مريض إدمان يأتينا, ونعلم تمامًا ونخبره أن مشوار التعافي ليس سهلاً بل يتطلب جهداً ومكابدة وتحمل معاناة نهايتها أفضل من الاستمرار في دائرة الوباء, وكنا نرى المريض الجاد في اتباع البرنامج الطويل كالطفل الرضيع الذي يبدأ أولى خطوات تعلم الحركة والمشي فيقوم ويطيح مثلما يقولون.
وقال الدكتور "محمود": نعلم يقيناً أن الإدمان مرض انتكاسي مزمن (بالمفهوم العلمي) الفكاك منه ليس بالأمر الهين، لكنه ممكن ويتطلب الكثير من العمل من المريض وأسرته ومحيطه, ولقد كفلت الدولة البرامج العلاجية والمختصين من مختلف التخصصات العلاجية والتأهيلية طبياً ونفسياً واجتماعياً ووظيفياً وإرشادياً وعلاج الإدمان التي تتعدى العشر تخصصات كلها تعمل لإعادة بناء كيان إنساني دمره الإدمان وتركه أسيراً لا يقوى على الفكاك, ورغم ذلك فإن المدارس العلمية في علاج وتأهيل المدمنين تدرك أن النتائج لن تكون نهائية ولا بنسب عالية وحددوا أكثر من ثلاث عشرة قاعدة ينبغي أن يشتمل عليها أي من برامج علاج الإدمان لتكون ذات تأثير وهي ما قامت عليه البرامج في مستشفيات الأمل منذ نشأتها واستعانت في بداياتها كما ذكرت بمدارس عالمية وخبرات لتأسيس برنامج علاجي يتماشى مع القواعد العلمية ومرتكزات المملكة الدينية والثقافية والاجتماعية, وتم الإنفاق عليها بسخاء من الدولة، لكن البرامج الصحية الوقائية المقننة في المجتمع لم تكن بنفس مستوى البرامج العلاجية.
وأضاف: أذكر في بداية الثمانيات انطلقت في عدة دول في العالم حملات معنونة بـ (كيف تقول لا للمخدرات) أو "قل لا للمخدرات" ومدلولها العميق في التدريب على السلوكيات الإيجابية واتخاذ القرار قبل الوقوع في المحظور حيث يصعب الفكاك، وفي عالمنا العربي قدمت كلمة (لا) في الترجمة واجتزأت الجملة إلى (لا للمخدرات)، والبداية بالنفي في وسائل التوعية غير مستحبة لأنها ربما حملت رسالة مزدوجة وأثارت الفضول نحو معرفة الممنوع.
وأردف: يحذر علماء التوعية من الرسائل المزدوجة والتي تحتمل معنيين بحسب فهم المتلقي ويجب أن تكون الرسالة ذات مدلول واحد, بل تعدى تصميم الرسائل التوعوية لأن يكون موجهاً بحسب الفئة المستهدفة عمرياً كان أو غيره لتكون محل اهتمام المتلقي ومفتاح التأثير عليه إيجابياً.
وتابع: لقد انتبه لذلك علماء التسويق ونجحوا في استخدام الرسائل التسويقية ذات الأثر النفسي على المتلقي وباستخدام أساليب ومنهجيات علم النفس إلى أن وصلنا للفضاء المفتوح وعالم البيانات الذي زادهم تمكيناً في الوصول للفئات المستهدفة بالتسويق تحديداً.
وقال الدكتور "محمود": بعكس ذلك امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالرسائل المغلوطة والمزدوجة في محالات التوعية الصحية وانتشرت كالنار في الهشيم وأصبح الكل يفتي كما يقولون، وأذكر أنه منذ عدة سنوات نشر الأستاذ الدكتور جمال الجار الله مقالاً عن التثقيف الصحي ذكر فيه أن "التثقيف الصحي أصبح مهنة من لا مهنة له".
وأضاف: سنحت لي الفرصة بمواكبة متخصصين في علاج وتأهيل المدمنين من عدة مدارس عربية وعالمية ومزاملة مختصين سعوديين من بدايات تدريبهم، وشرفت بالمشاركة في تدريب البعض، وما كان اختياري لتخصص الطب الوقائي والصحة العامة والذي كان يسمى طب المجتمع إلا من خلال حوارات مع مختصين في مجالات طب الإدمان والتي لخّصت بأن مشكلة الإدمان تصنف كمشكلة مجتمعية وعوامل التأثير فيها متعددة، وينبغي أن تكون شاملة ومتناسقة وطويلة المدى عكس العلاج الطبي الدوائي فهي مشكلات تحتاج عوامل تنظيمية وقانونية وأمنية واجتماعية وتعليمية ونفسية وتأهيلية وبرامج منتصف الطريق وبرامج المتابعة المستمرة، وقبل ذلك البرامج الوقائية المستهدفة والتعامل مع الفئات ذات عوامل الخطورة الأعلى للوقوع في الإدمان بشكل استباقي.
وأردف: تلعب برامج الصحة العامة وطب المجتمع أو الطب الوقائي دوراً محورياً في هذا الجانب بطرق المبادرة والعمل في أوساط المجتمع، فضلاً عن العمل فقط داخل المستشفى وهو دور مهم ولكنه وقاية من الدرجة الثانية أو الثالثة، كما يعرفه علماء الرعاية الصحية.
وتابع: نظرًا لأن التحدي عالمياً صعب ووباء الإدمان يتطلب جهود جميع الجهات باستراتيجية مبنية على الوقاية ومنع الوقوع في براثنه فإن الجانب الوقائي على جميع الأصعدة ينبغي أن يكون المؤشر الأول لخطة الحرب على المخدرات, وتعتبر الحملة الحالية في المملكة أحد هذه الجوانب الوقائية, وكمختص أتطلع لتكاتف أكبر وأدوار محددة تبدأ من المنزل ,المدرسة, العمل, وكل البيئات المجتمعية الحكومية والأهلية في تناغم مطّرد ويجعلنا نسير على الخطى المباركة لمرتكزات رؤية المملكة 2030 بقيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ودعم ومتابعة عراب الرؤية سمو سيدي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان, كما أتمنى كمختص أن تتحول اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات إلى مركز وطني أو هيئة للوقاية من المؤثرات العقلية تقود هذا الزخم الوقائي برئاسة سمو سيدي ولي العهد، وتتشكل بها مجالس ولجان متخصصة من الأكاديميين والتربويين والمتخصصين من جميع المجالات المعنية لرسم استراتيجية مستدامة، وتتبنى البرامج المجتمعية في المكافحة والعلاج والتأهيل إلى جانب مراجعة التشريعات المعنية مع الجهات التنظيمية والقانونية بما يتوافق والتحديث مع كل مستحدث أو مستجد في هذا الِشأن، حفظ الله بلادنا وشبابنا ووفق ولاة أمرنا والجهات المعنية وجزاهم الله خير الجزاء عن جهودهم في كل ما من شأنه رفعة الوطن وتحسين جودة حياة المجتمع.