معضلة الدراما السعودية

معضلة الدراما السعودية
تم النشر في
كثيرة هي الأعمال السعودية التي يعرضها التلفزيون السعودي وبعض القنوات الفضائية العربية الأخرى، التي يُطلق عليها مجازاً أعمالٌ درامية. وقد أطلقت لفظة مجازاً على هذه الأعمال ليس من باب التندر أو التهكم، ولكن من باب الغيرة على التجربة السعودية في مجال الدراما، التي امتدت لأكثر من نصف قرن وما زالت تراوح مكانها على مرأى ومسمع من مختلف الأجهزة ذات العلاقة بالإنتاج الفني الدرامي، وعلى رأسها هيئة الإذاعة والتلفزيون. وإن كان من السهل على المرء طرح المشكلات إلا أن تقديم الحلول الممكنة ليس بالأمر الهين، ولكن سوف أبذل ما في وسعي لتشخيص المشكلة وتقديم الحلول لها بإذن الله.
 
 إن كلمة دراما قد أسيء فهمها، إما جهلاً أو عمداً، فإن كان جهلاً فتلك مصيبة، وإن كان عمداً فالمصيبة أعظم. ودعونا نستعرض بشكل عام ما يعرض على شاشات الفضائيات من أعمال درامية في شهر رمضان للعام الحالي 1435هـ، ولنحكم بميزان العلم والمعرفة وبعيداً عن العواطف، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. إن ما يقدم في مجمله عبارة عن سلسلة من الحلقات التي تحمل كل منها فكرة فكاهية، وهي في غالبيتها أفكار ضعيفة، وبعضها هزيل، ولا ترقى إلى أن يؤسس عليها نص درامي، بل إن معظمها مستقاة من أخبار ومقالات تناولتها الصحف أو المنتديات الإلكترونية، فهي أقرب إلى الحكاية منها إلى النص الدرامي، ناهيك عن بعض التجاوزات الأخلاقية، التي لا تليق بنا كمجتمع مسلم، وفي هذا تجنٍّ على تجربة الدراما السعودية التي لم تصل في أضعف مراحلها إلى هذا المستوى من التهريج واللامبالاة بما يقدم، وكأن العملية برمتها مجرد سواليف أو حواديت، وشتان بين العمل الدرامي المحبوك وتلك الأعمال السطحية والدخيلة على الدراما. وليتها توقفت عند مسلسل بعينه، لكن عدواها انتشرت إلى معظمها. 
 
وحتى نقرن النقد بالبرهان أقول إن معظم الأفكار التي تقدمها المسلسلات السعودية الرمضانية لم تتح لنا أن نشاهد الدراما التي قدمت لها الإعلانات التلفزيونية واللقاءات الصحفية، وإن كنت ممن لا يرفع سقف التوقعات حيال ما أُعلن، لعلمي المسبق بأن الأعمال التي نتحدث عنها هي للاستهلاك اليومي ليس إلا، وليست لزيادة التراكم الفني والمعرفي لمنظومة الدراما السعودية، فالعمل الدرامي بناء متكامل له أصوله الفنية العالمية، وليس مجالاً للاجتهادات الشخصية، وإلا لما عقدت المهرجانات السنوية في أصقاع العالم، وخُصصت لها الجوائز العالمية التي لا نصيب لنا حتى في المشاركة فيها، فضلاً عن المنافسة على جوائزها. وإن سألتموني لماذا وصلنا لهذه المرحلة التي لا يمكن لعاقل منصف أن يكون راضياً عنها أقول لكم بكل بساطة، ونقلاً عمن سبقونا بفكرهم وتجربتهم "من فات قديمه تاه"، وفعلاً تجربتنا الفنية الدرامية الحالية تعيش مرحلة التيه.
 
 إن التجارب الفنية في العالم أجمع لم تنشأ من فراغ، ولم تستمر وتنجح بالحظ، بل إنها نتيجة عمل ممنهج وجهد جبار استنزف حياة وفكر ومال الكثيرين حتى كتب له النجاح، وليس وليد اللحظة، أو نتيجة ضربة حظ، هذا الحظ لا يعول عليه البتة في الإنتاج الدرامي المحترم. ولنكن أكثر صراحة ووضوحاً، فنجد أن غالبية ممثلي الدراما السعوديين ليسوا ممن تخرجوا من أي من معاهد التمثيل المعروفة في العالم العربي، بمعنى أنه لا يوجد إعداد أكاديمي لمعظم فنانينا؛ لنميز بين انتماءاتهم إلى المدارس الفنية المختلفة ويحدد كل منهم هويته الفنية التي تمثله. فليس من المنطق أن يُفرض علينا ممثل لا يحمل مقومات الكوميديا التي تجعله يفرض نفسه بأدائه وليس بعضلاته.
 
وكثيراً هي التجارب المخجلة التي نشاهدها يومياً ونتألم لرؤيتها، فبعد أن أعلن الكتاب الدراميون إفلاسهم، أو لنقل بعد أن خلت الساحة الدرامية منهم، بدأت موجة شراء الأفكار وتحويلها إلى نصوص تظهر للساحة الفنية، وبشكل مخيف، وعندما لم تفلح هذه الطريقة أو أنها أوشكت على النضوب، اتجه البعض إلى اللعب على ورقة اللهجات. وأستغربُ كثيراً لأن اللهجات وهي عنوان ثقافة الشعوب لم تسلم هي الأخرى من العبث بها وتسخيرها لخدمة أهداف إنتاجية ربحية، لا علاقة لها بالفن، وإلا فكيف يمكن أن تستغل لهجة منطقة معينة لتكون محوراً للتندر والإضحاك، لا لشيء إلا لأن هناك إجماعاً فنياً غير معلن على أنها لغة تثير الضحك، وتعبر عن السذاجة من قبل فنانين يمثلون أبناء المنطقة نفسها، وهذا ما نقلته الدراما، وليس ما هو موجود أصلاً؛ لأن التسليم بهذا الشيء معناه أن هناك خللاً في التركيبة الثقافية والاجتماعية للمجتمع نفسه، فهناك لغة يمكن تقبلها، وهناك لغة ثانية يمكن السخرية منها واستخدامها للتندر والاستخفاف والتهكم على ثقافة مجتمع بكامله، وهذا ما لا يمكن تقبله فضلاً عن استيعابه. وللأسف، إن هذا الأمر يجرى على ألسنة أبناء المنطقة نفسها من باب "بيدي لا بيد عمرو"، ولا ضير طالما أن الأمر مضحك، ويدر المال، لدرجة أن من هم من غير أبناء السعودية بدؤوا يسألون عن هذا التوجه، وهل فعلاً هذه اللهجة أو تلك هي مثار للسخرية منها وممن يتخاطبون بها، أم أنها لهجة مبتكرة من قبل الممثلين؟ ومما زاد الأمر سوءًا على سوئه ضعف البناء الدرامي للأعمال المقدمة، وتكرار الأفكار المطروحة والشطح بها إلى آفاق من السطحية غير المستساغة؛ ما أدى إلى الإضرار بالحبكة الفنية للفكرة نفسها؛ وبالتالي ظهر الممثلون وهم يراوحون مكانهم، وانعكس هذا الأمر على أدائهم بشكل واضح.
 
ولكي تتضح الصورة بشكل أفضل لنأخذ مثالين لعملين دراميين ساطعين كالشمس في رابعة النهار، وبلغا من الشهرة مبلغاً كبيراً، ونالا من المتابعة إعجاب شريحة كبيرة من الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي الكبير، أولهما المسلسل الفكاهي الهادف الشهير "مرايا" للفنان الكبير (ياسر العظمة)، فمن منا لم تتح له متابعته بل قل والاستمتاع به؛ فهو يجسد العبرة في أروع صورها، ومن خلاله استطاع العظمة أن يقدم صوراً رائعة من الموروث الثقافي والحضاري لبلاد الشام، لا تقل جمالاً وروعة عن الأداء الدرامي نفسه الذي جسد العمل. وثانيهما المسلسل الدرامي الشهير "باب الحارة" الذي امتد لستة أجزاء، وطبقت شهرته آفاق العالم العربي، لدرجة خصصت له إحدى القنوات الفضائية حلقة ليلية تحليلية لمجريات كل حلقة، وما احتوت عليه من هفوات وجوانب القوة والضعف الأخرى في المسلسل. ولو أردت أن أتحدث عن باب الحارة أخشى أن أقصر في إنصافه، ولكن يكفي أن أقول إنه عمل متقن، اتفقت عليه الآراء، وإن شابه بعض الهفوات أو عليه بعض الملاحظات، فعزانا أن الكمال لله سبحانه وتعالى، ولكن المسلسل في مجمله عمل جبار، توافرت له جميع عناصر النجاح، وبُذل فيه من الجهد ما جعل منه حديث المجالس، وتاج الأعمال الدرامية الرمضانية، وحتى بعد رمضان تصر العديد من المحطات الفضائية على إعادة عرضه لأكثر من مرة خلال العام. والسؤال: هل جاء هذا الاهتمام وهذه الشهرة من فراغ؟ لا أعتقد أن ذلك جاء من فراغ؛ لأن تحقيق الإجماع الشعبي حول عمل أو فكرة أو رأي لا يأتي من فراغ، وإنما عن اقتناع. وما ذكرت من أعمال ناجحة على سبيل المثال لا يقلل من أعمال أخرى لا تقل نجاحاً وشهرة، لكن أحببت أن أركز حديثي في رمضان وفي الأعمال السورية بالذات؛ لأنها تمس الجانب الثقافي والموروث الشعبي السوري، واستطاعت أن تنجح في الجمع بين الدراما والتاريخ بطريقة سلسلة وممتعة وجذابة، وإن كنت لا أخفي إعجابي الشخصي بها، وأرجو الله ألا أكون قد انحزت ضحية إعجابي.
 
وبعد هذا الاستعراض لجميع ملابسات وإشكاليات الدراما المحلية، من وجهة نظري، أجد أنه من الأمانة أن أوضح للقارئ العزيز الأسباب التي أرى أيضاً من وجهة نظري أنها وراء تراجع الدراما السعودية، أو لنقل وراء مراوحتها في مكانها منذ سنوات عدة، وأجدها تعود إلى تجاوز مرحلة المؤسسين الحقيقيين لفن الدراما السعودية، أمثال الأستاذ سعد خضر، والأستاذ محمد الهذيل رئيس جمعية المسرحيين السعوديين، والأستاذ محمد العلي رحمه الله، والأستاذ محمد حمزة، والأستاذ محمد الطويان، والأستاذ علي إبراهيم، والأستاذ مطرب فواز، والأستاذ عبدالرحمن الخطيب، والأستاذ عبدالرحمن الخريجي.. وهناك الكثير من المبدعين.
 
لقد استطاع هؤلاء الرواد على الأقل أن يخطوا الخطوة الأولية والأساسية لبناء قاعدة العمل الدرامي، ولهم من الأعمال التلفزيونية والمسرحية ما يسجل لهم أولوية التجربة، وأسبقية المحاولة، وكان من المفترض أن يثري الجيل الحالي من الفنانين هذه التجربة، ويضيف إليها من معارفه وخبراته ما يسهم في إضافة لبنة في بنائها، ولكن ما حدث قام على اجتهادات فردية لا يمكن وصفها بأكثر من محاولات فيها من التجاوزات الفنية والأدائية ما الله به عليم، ولو تتبعنا سيرها الدرامي ابتداءً من كتابة النص ومعالجته، وتحويله إلى حوار، ومن ثم تنفيذه، لوجدناه أبعد ما يكون عن الدراما، رغم تسميته عملاً درامياً.
 
لقد تنافس الجميع في متابعة الجرائد، والمنتديات العنكبوتية، لاستقاء ما يدور فيها، وإعادة طرحها وتصويرها، بطريقة سطحية، وفيها الكثير من الاستخفاف بالمشاهدين، وخصوصاً عندما يتبنى القائمون على العمل الانحياز لبعض الأفكار على حساب أخرى، وبطريقة مكشوفة؛ وبالتالي فإن الحياد في معظمها مفقود؛ لأنها ببساطة كما قلنا نقل مباشر، وليست وليدة معايشة المواقف والحياة، وليست عصارة تجربة شخصية صادقة ومعاشة. فشتان بين من ينحت في الصخر ومن يقتني المنحوت.
 
ويبدو أنه سيمضي وقت ليس بالقصير حتى تتمكن الحركة الدرامية السعودية من استعادة رونقها وعافيتها، في الوقت الذي سبقت فيه الكثير من التجارب في العالم العربي. وأقترح هنا على هيئة الإذاعة والتلفزيون أن تفكر في استقطاب كتاب الدراما من خلال نشر إعلان في بداية شهر شوال عن تنظيم مسابقة لكتابة نصوص الأعمال الدرامية، على أن تقدم في موعد مناسب يحدد من قبل لجنة تشكل لهذا الأمر، ويُختار من النصوص المقدمة العدد الذي ترى الهيئة أنه يستحق أن ينتج كعمل درامي هادف، ومن ثم تعرض النصوص من قبل الهيئة للبيع، ومن ثم تتقدم المؤسسات بعروضها لشراء كل نص، ويرسو العرض على الشركة الأعلى سعر.
 
وبذلك تتاح الفرصة لاكتشاف المواهب وتقديم أعمال ذات معنى وهدف، فالدراما ليست مشروعاً تجارياً يمكن احتكاره، بل هي فن إبداعي متى ما سلم من الأنانية والتكرار الممجوج، والسطحية المقيتة، والابتذال، والمجاملة على حساب النوعية. 
وللجميع أقول: كل عام وأنتم بخير..

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org