يبدأ الأمر أحيانًا بمراوغة غير مقصودة، تبدو في ظاهرها محاولة لمقاومة الانسلاخ من الهوية، أو مجابهة الآخر الذي يتغلغل في ثقافتنا -شئنا أم أبينا- بشكل أو بآخر، ولكنه يفضي (أحيانًا) -كما قلتُ في البداية- إلى عنصرية مقيتة. وشتان بين العنصرية والتمسك بالهوية؛ لأن العنصرية في أقل مساوئها تعني إقصاء الآخر، ونبذ المختلف، وازدراء وجوده.. وهذه –لعمري- مراوغة هوياتية لنبد الآخر، حبكها شيطان ما. فحسبك أن تكون إنسانًا، إنسانًا فقط لتعي الحد الفاصل بين المفهومين.
العنصرية آفة تضرب المجتمعات في مقتل، ووباء يفتك بعملية "التمدن". والمصاب بهذا الداء -أعني «العنصرية»- لا يميز أفعاله الرديئة عن بعضها؛ فالمتعنصر اليوم الذي يعاملك وفق اعتبارات محددة، تشتمل على: اللون والدين والعرق والجنس، بسبب المناخ المحيط به من: القبيلة، أو الانتماءات الفكرية، أو بسبب تربية الأسرة، أو بسبب الجهل، أو بسبب حرمان المعرفة، إنما يتجاوز فعله العنصري من فعل فردي، وحدوي، إلى ترسيخ التراكمات والترسبات في أذهان المجتمع دون وعي وإدراك؛ لتعمل تلقائيًّا الذاكرة الذهنية (الجمعية) لدى أفراد انتماء واحد على احتقار المختلف في الذهن اللاواعي؛ ما يفسر ظهور أفعال عنصرية، قد يتراجع عنها الفرد فيما بعد.
عندما نستعرض أهم المنطلقات الفكرية للمتعنصرين من حيث الفكر والقناعة نجد أنها في الأغلب تعود إلى قناعات اجتماعية متوارثة، أو فكرية وثقافية مكتسبة، أو تعود إلى دناءة وأحقاد، اعتادتها تلك النفوس.. إننا نجد المتعنصرين حريصين على إقصاء المخالف لهم في العرق والدين. وغالبًا ما تظهر على العنصريين سمات وخصائص تميزهم عن غيرهم، لعل في مقدمتها بشكل دائم انعدام الخلفية الثقافية والتحصيل العلمي، مع الكثير من القناعات التي هي -من وجهة نظرهم- لا تخضع للنقاش والنقد؛ إذ أصبحت بالنسبة لهم كالقواعد المسلَّم بها. مثال ذلك تفوُّق عرق معين على آخر، أو ما يعتقدونه من دونية الأعراق الأخرى مقارنة بالعرق الذي ينتمون إليه. ولعلي في هذه المقالة أشير -كما أسلفت- إلى التعليم، ومستوى ودرجات الثقافة الشخصية، التي أرى أنها تلعب دورًا مهمًّا في تكوين القناعات الشخصية لدى أفراد المجتمع. فمن العسير على الفهم والمنطق أن يتحلى الشخص المثقف الذي قد نال قدرًا لا بأس به من التعليم بصفات وقناعات الفرد العنصري والإقصائي؛ فكلما ارتفعت درجات العلم والثقافة الشخصية كان لذلك الدور الكبير في ترقق الشخصية الإنسانية، وابتعادها عن مسارات وفضاءات الإقصاء والعنصرية؛ فهي مسألة علاقة طردية في نهاية المطاف.
ولعل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم كان لها دور لا بأس به من حيث النفع والمساعدة في نبذ العنصرية، وزيادة التثقيف الذاتي، بل إنها -إن جاز التعبير- لعبت دورًا مهمًّا في تخفيف وتيرة العنصرية لدى الشعوب بالمساهمة في إيجاد نوع من التخاطب الاجتماعي والإنساني، وتقريب وجهات النظر، وخلقت بين شعوب العالم حالة من العولمة الثقافية، ونوعًا من التجانس، وهيأت لقبول الطرف الآخر، ولتفهُّم منطلقاته الفكرية والاجتماعية، ولقبوله بكل خصائصه المنبثقة من سُلَّم قيمه الاجتماعية، وتراكميته الإنسانية الخاصة به. حتى وإن كان ذلك لا يعجب العنصري فإنه مجبر في النهاية على الظهور بصورة متقدمة أمام الآخرين كالمنافق. وذلك -من وجهة نظري- أضعف الإيمان في مكافحة العنصرية.
إن مسؤوليتنا الإنسانية نحن الذين نزعم أننا قد قطعنا شوطًا لا بأس به من التعلم والثقافة الإنسانية والمعرفية أن نبذل المزيد من الجهد التثقيفي والتنويري من خلال أطروحاتنا التشاركية عبر فضاءات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؛ من أجل القضاء على كل هذه الظواهر الاجتماعية السرطانية التي كانت –ومازالت- مهددة للاستقرار الاجتماعي والتعايش السلمي، منها العنصرية بأشكالها كافة، سواء عنصرية الجنس والتمييز بين الأفراد على أساسه، أو عنصرية الدين، واللون، بل إنني أطمح إلى تكوُّن الانطلاقة لنبذ التعنصر من خلال تربية النشء الصغير من أطفالنا على قناعات نبذ العنصرية منذ الصغر؛ فذلك كفيل بالقضاء على هذه الظاهرة، وحماية مجتمعنا منها.
إن الاعتراف بهذه الحقيقة هو الترياق الأمثل لمرض العنصرية والخوف من الآخر، ولسائر مظاهر التفرقة؛ وبالتالي فإن هذه الحقيقة يجب أن تكون المبدأ المرشد والنتيجة الحتمية وراء المناقشات والتوصيات. وإن تفهُّم هذه الحقيقة بشكل مباشر من شأنه أن ينقل الإنسانية إلى مرحلة تتجاوز فيها الأفكار الوسطية من التسامح المبني على تعدد الثقافات، وإلى عالم عادل وسلمي.
وحديثي السلمي لا يكفي لاستئصال الآلام المتأصلة للعنصرية ولسائر أنواع التعصب دون موقف حازم، وتطبيق أقصى العقوبات والسجن لمفتعلي العنصرية والنعرات بشكل مباشر، ومضاعفة هذه العقوبات، وتحديدًا في وسائل الإعلام الجديد؛ لخلق حضارة عالمية سليمة من التشوهات.