خلال الأشهُر الأربعة الأخيرة من العام الجاري (2019) أصدرت العديد من المنظمات الدولية والشرق أوسطية دراسات وتقارير معنية بأفراد منظومة التحديات والمتغيرات التي ستواجهها أسواق العمل الإقليمية والدولية؛ بسبب التوسع الهائل في استخدامات التقنية والأتمتة والذكاء الاصطناعي، وقيامها بما يؤديه البشر في أداء الأعمال.
ومن أبرز التحديات التي ستواجهها الحكومات والمنشآت والأفراد – على حد سواء - اختفاء آلاف الوظائف من خريطة أسواق العمل بسبب انتعاش التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص، الذي لم يلغِ فقط دور الإنسان، بل أعاد هندسة الوظائف المستقبلية. ويمكن الإشارة هنا إلى القارئ الآلي "كيو هاو" الذي قدمته وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" لمشاهديها في نوفمبر 2018، ومثَّل ذلك تهديدًا واضحًا للمذيعين البشر؛ كونه يعمل بـ"الذكاء الاصطناعي"، ولا يختلف عنهم من حيث ارتدائه ربطة عنق حمراء اللون، وبدلة، فضلاً عن تعبيرات وجهه الطبيعية، فكان يرفع حاجبيه قليلاً وتُغمَض عيناه أثناء إلقاء نشرة الأخبار.
بطبيعة الحال، لم تعد مسألة تأثير التكنولوجيا مقتصرة في النقاش على إطار عمل محدد دون آخر؛ فعلى العكس تمامًا؛ يمكن التأكيد - ومن خلال خبرتي في هذا المجال - أنها أصبحت متحكمة في أبعاد حياتنا الشخصية والسلوكية والمهنية أيضًا؛ وهنا يكمن السؤال الجوهري الذي يجب مناقشته بمسؤولية: ما هو المطلوب لتطوير المهارات الوظيفية في ظل هذه الخريطة المتغيرة من الوظائف التي لم تعهدها أسواق العمل من قبل؟ فالإجابة عن هذا السؤال لن يتسع لها هذا المقال؛ كونه يحمل مسارات كثيرة، لكن بالتأكيد سيفتح الباب واسعًا أمام سلسلة من النقاشات الإيجابية والمثمرة، خاصة أن السعودية تخطو أشواطًا متقدمة في ذلك. ومن الخطوات الإيجابية والنوعية التدشين الحديث للأكاديمية السعودية الرقمية (مايو 2019) التي تتبع وحدة التحول الرقمي، وهو مركز امتياز حكومي، يعمل على تسريع عملية التحول الرقمي في السعودية، وتحقيق أهداف رؤية 2030. ومن أهم مسارات الأكاديمية الجديدة تحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية.
ومن الجهود الإيجابية في هذا النطاق ما قامت به مؤخرًا جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل بالدمام -على سبيل المثال لا الحصر- بتوقيع مذكرة تفاهم مع مايكروسوفت العربية بهدف تشجيع الابتكار، وتوفير فرصة الحصول على أكثر المناهج والشهادات المطلوبة في عالم التحول الرقمي، من خلال أكاديمية مايكروسوفت "Imagine Academy".
ويجب أن نعلم أن الوظائف المستقبلية لن تحتاج لمن يجلس أمام شاشة كمبيوتر لإدخال البيانات، أو لموظف خدمات بريد، يوضح آلية أو موعد استلام الشحنات، كما لن تحتاج لعامل تجميع بأحد المصانع، وغيرها من الوظائف الإدارية، فبعد ثلاث سنوات تقريبًا، أي بحلول 2022، سيتلاشى من سوق العمل نحو 75 مليونًا لصالح "الروبوتات"، وفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي المعنون بـ"مستقبل الوظائف 2018"، لكن في المقابل سيستحدث الاعتماد على الروبوتات 133 مليون وظيفة أيضًا، أي بزيادة 64 % عن الوظائف المختفية. فعلى سبيل المثال لا الحصر: ستزاحم "الروبوتات" الأطباء في بعض تخصصاتهم؛ إذ يمكن من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبنظرة واحدة إلى عين المريض، اكتشاف مشاكله الطبية المحتملة. ولن يجد مبرمجو ألعاب الكمبيوتر صعوبة في الحصول على وظيفة عام 2025، بل إنهم سيستحوذون على الأعمال بحلول 2050، وسينخفض الطلب على المترجمين خلال السنوات المقبلة؛ لأن شركة مايكروسوفت طورت برنامجًا للترجمة، يشبه إلى حد كبير نتائج الترجمة المباشرة التفاعلية.
أثناء كتابة هذه الأسطر كنتُ قد انتهيت لتوّي من قراءة "العرض العام" لتقرير التنمية في العالم (2019) بعنوان "الطبيعة المتغيرة في العمل". وفي تصوري الشخصي إنه يمثل أهم ما ناقش مسألة اضطراب العلاقة بين التقنية وعالم الوظائف. وأكثر ما لفت انتباهي في سياق المضمون العام للتقرير هو أن الإنسان الآلي (الروبوت) سيتولى آلاف المهام الروتينية، وسيقضي على العديد من الوظائف ذات المهارات المتدنية في البلدان المتقدمة والنامية، لكن في الوقت نفسه ستخلق التكنولوجيا فرصًا، وستمهد الطريق لظهور وظائف جديدة أو معدلة، كما سيؤدي ذلك إلى زيادة الإنتاجية، وتحسين الخدمات العامة.. ولكن حين ندرس نطاق التحدي للتحضير لمستقبل العمل فمن المهم أن نفهم ونعي أن العديد من الأطفال الذين يدرسون في المرحلة الابتدائية سيعملون حين يكبرون في وظائف غير موجودة حاليًا.
لذا من المهم عند مناقشة أبعاد الموضوع أن نركز على صدارة رأس المال البشري في مواجهة تحديات سوق العمل؛ فالعديد من وظائف اليوم، والكثير غيرها في المستقبل القريب، ستتطلب مهارات معينة، هي عبارة عن مزيج من "المعرفة التقنية، وحل المشكلات، والتفكير النقدي، إضافة إلى المهارات الشخصية، مثل المثابرة والتعاون والتعاطف..". وللمعلومية، فإن الزمن الذي يبقى فيه المرء بوظيفة واحدة، أو مع شركة واحدة لعشرات السنين، في سبيله للاندثار في ظل اقتصاد الوظائف غير الدائمة. ومن المرجح أن يشغل العاملون العديد من الوظائف المؤقتة على مدار حياتهم المهنية؛ وهو ما يعني أنهم يجب أن يبقوا متعلمين مدى الحياة.
ولا يمكن فصل التعليم عن تنمية المهارات في ظل التمدد التقني الهائل؛ فقد تابعت خلال الفترة القريبة الماضية وقائع "المؤتمر الدولي لتقويم التعليم 2018" الذي عُقد خلال الفترة من 4-6 من ديسمبر الماضي، وناقش آخر المستجدات في مجال «مهارات المستقبل.. تنميتها وتقويمها"، برعاية خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله -، وبإشراف وتنظيم "هيئة تقويم التعليم والتدريب"، وهي جهة حكومية، ترتبط تنظيميًّا برئيس مجلس الوزراء، وشارك في جلساته النوعية والمهمة وزراء ومسؤولون محليون وإقليميون ودوليون. وللأمانة، أعتقد أن المؤتمر يمكن أن يشكِّل بداية مفصلية للمنظومة السعودية من خلال العمل على رفع مستوى الشراكة بين المؤسسات والقطاعات المعنية بالمهارات وقطاع الأعمال؛ وذلك من أجل تقليل الفجوة بين مهارات القرن الحادي والعشرين التي تتطلبها مهن المستقبل ومهارات طالبي العمل من الجيل الجديد.
وسأورد أهم الأفكار لتداخلها الكبير في موضوع حديثنا، ومن ذلك:
* بناء وتصميم إطار وطني مرن لمهارات المستقبل، يراعي احتياجات القطاعات الاقتصادية، مع إبراز المهارات ذات القيمة المضافة للعمل في بيئات قطاع الأعمال التي تتصف بالتحولات والتغيرات المتسارعة.
* دمج مهارات المستقبل في المناهج الدراسية للتعليم العام الجامعي من أجل تعليم يُهيِّئ الجيل الجديد لوظائف المستقبل.
* التوعية ونشر المهارات المطلوبة للنجاح في الحياة وسوق العمل، والتواصل المستمر مع مؤسسات تخطيط الموارد البشرية.
* ربط مخرجات التعليم العام والجامعي بالمهارات اللازمة للنجاح في الحياة، والاستجابة لمتطلبات مهن ووظائف المستقبل، والمواطنة، والتحول الرقمي، وربطها بمعايير الاعتماد لمؤسسات وبرامج التعليم العام الجامعي.
ومن نافذة الاستئناس الختام بما أشار إليه خبير الاستشراف العالمي المدير التنفيذي وكبير الباحثين في معهد دافينش توماس فري والخبير في تكنولوجيا المستقبل، من أن كل قطاع يمر بفترة بداية، وذروة ونهاية؛ وذلك سيؤدي إلى اختفاء أكثر من مليارَي وظيفة بحلول 2030. وعلى الناس البدء بالتفكير في وظائف جديدة. وبحسب بحث صادر عن جامعة أكسفورد، فإن التقنيات المستقبلية ستستحوذ على 47 % من الوظائف الموجودة اليوم، وستشهد القطاعات كافة صعوبات عدة، وعراقيل في المستقبل؛ فقطاع السيارات يعاني حاليًا بعض الإرباك بسبب السيارات ذاتية القيادة؛ وسيؤدي ذلك إلى اختفاء وظائف عدة، مثل سائقي سيارات الأجرة، والقائمين على توصيل الطرود وخدمة ركن السيارة وتسجيل السيارات، إضافة إلى اختفاء محطات التزود بالوقود، ومراكز الخدمة، وأماكن صف السيارات، وخدمة المساعدة على الطريق. كما أن أبحاث شركة "إيرباص" ما زالت مستمرة لإطلاق سيارات الأجرة الطائرة من دون طيار في عام 2030.
وفي نهاية المطاف ليس المطلوب منا القلق، وصناعة الخوف الوهمي من "دور التكنولوجيا في تلاشي الوظائف"، بقدر إعادة بوصلة التفكير حيال شكل وبنية المهارات المطلوبة للمواءمة مع المتغيرات الجديدة. وكما يذكر تقرير "وظائف المستقبل 2040"، يصعب أتمتة الوظائف التي تنطوي على التفكير الإبداعي؛ إذ "لا يمكننا تخيل عالمًا تسيطر فيه الأتمتة على كل شيء، وتُلغى فيه الحاجة إلى العنصر البشري".