أول "رمضان" على أسرة "آل نحيت" بعد وفاته.. غاب الشيخ وحضرت الذكريات

ابنه روى لـ"سبق" قصصًا إنسانية لا تُنسى ولحظات مبكية في الليلة الأخيرة
أول "رمضان" على أسرة "آل نحيت" بعد وفاته.. غاب الشيخ وحضرت الذكريات
تم النشر في

يحلُّ شهر رمضان المبارك لهذا العام 1440 هـ دون رجل الأعمال والشاعر حجاب بن نحيت، الذي رحل في منتصف شهر ذي الحجة العام الماضي تاركًا خلفه تاريخًا في الإصلاح بين الناس، وعتق الرقاب، ومشاركته الوطنية؛ إذ كان شخصية مقدرة لدى الجميع، ومعروفًا لدى الدولة ورجالاتها، ويحظى باحترامها.

وتفصيلاً، كان لـ"حجاب بن نحيت" مواقف جليلة مع أسرته وقبيلته "حرب"، وغيرهم من باقي القبائل من أبناء دولته، وكذلك دول الخليج؛ وكان يلقى تقديرًا كبيرًا عند زيارته دول الخليج، ويُعرف بحكمته وثقافته الواسعة، وفصاحته وبلاغته بالقول والشعر.. وله رؤية ثاقبة؛ إذ عُرف عنه أنه من أبر الناس بوالديه، وأصدق الناس نصيحة.

وُلد حجاب بن نحيت في مركز الفوارة في القصيم عام 1363 هـ، الموافق لسنة 1944م، وكان ملهمًا بالشعر وحب البادية، وعاش بعد ذلك في العاصمة الرياض، وسجل تاريخًا حافلاً في الإصلاح بين الناس، وتوفي - رحمه الله - عام 1439 هـ.

يقول العميد "أيوب" ابن الفقيد: ليس من السهل أن تكتب أحاسيسك ومشاعرك تجاه أبيك؛ والسبب يكمن بالنسبة لي في الخوف من عدم إعطائه ما يستحق من الوصف، وهو أقرب الناس إلى قلبك.

وتابع: على كل حال، سأحاول -بإذن الله تعالى- تسليط الضوء على شخصيته من زوايا مختلفة، وسأعمد إلى إيضاح أهم المحطات التي أدت بشكل مباشر إلى تكوين شخصيته الفذة؛ فقد كنت ملازمًا لوالدي - رحمه الله تعالى - منذ أن أصبحت أميز هذه الحياة.. لازمته أثناء فقره وغناه، شبابه وهرمه، وكان شغوفًا بالعلم، محبًّا لأهله، حريصًا على تعليم أبنائه بنفسه، والتأكد من جودة تحصيلهم العلمي مهما كلفه الأمر.

ذكريات لا تُنسى

ويضيف العميد "أيوب": بعد فِراق والدي صرت أجد له في كل مكان ذكرى طيبة، وله مواقف كثيرة ومتنوعة، لا يمكن أن أحصيها. في الحقيقة هي دروس وعِبر، وليست مجرد مواقف.. وتعلمت منه استشعار المسؤولية، وأيقظ بي الضمير الحي، والحس الإنساني.. ما أكثر المواقف التي أثبت من خلالها إنسانيته رحمه الله.

ويحكي قصة حدثت ذات يوم في عام 1402هـ، ويقول: وجد والدي رجلاً مسنًّا في الشارع الذي نسكن به في مدينة الرياض، وكان واضحًا عليه التعب والإعياء.. كان فاقدًا للذاكرة، وتائهًا عن أهله ومنزله.. حمله والدي بنفسه للسيارة، واستضافه بمنزلنا لمدة أيام، وتواصل بنفسه مع الجهة الأمنية المختصة، الذين بدورهم أوصلونا بذويه، الذين حضروا لاستلامه في أحلى وأبهى حلة، وكان والدي - رحمه الله - طيلة استضافته يطعمه بنفسه، ويسأله عن بعض القصص التي يرغب الضيف في الحديث عنها، وكل ذلك أمام ناظري.

وتابع: في يوم من عام 1407هـ، وبعد أن انتقلنا إلى منطقة القصيم، سمع والدي أن إحدى العوائل قد ضاقت ذرعًا بأحد أبنائها ذي الـ14 عامًا؛ فذهب بنفسه، واستضافه في منزلنا شهرين أو يزيد، وكأنه قرر أن يعيد تأهيله من جديد. سبحان الله، استجاب ذلك الصبي العنيد لتعليمات أبي تمامًا، وكان يعامله معاملة الأب الحنون لابنه، ويوجهه، ويرسم له خارطة الطريق، ويحفزه، ويكافئه في كل مرة يثبت من خلالها تغيره إيجابيًّا. وعندما أيقن أنه أصبح مؤهلاً للعودة إلى منزله وأهله قال له حرفيًّا: "اليوم يا وليدي أنت مخير، إن أحببت البقاء عندنا فأنت ولدنا، وأنا أبوك، والله يحييك، وإن بغيت تروح لأهلك بكيفك، وأنا راح أبقى أبوك، وأنا معك طول ماني حي". واختار الصبي العودة لأهله ومنزله، وودع والده الجديد، ودموعهما خلف نظراتهما.. واستمر والدي يتابع أخباره من حين لآخر حتى كبر وأصبح رجلاً ناضجًا ناجحًا في حياته.

أبي كما عرفته

وقال العميد "أيوب": تأثرنا بشخصيته القوية والمبهرة إلى آخر مدى.. كنا نعشق كلامه ومزاحه، ولعبه وجده، وهزله وابتسامته الدائمة طالما أنك تعرف ما يرغب فيه، وتسعى لتحقيقه.

وأردف: كان -رحمه الله تعالى- يعشق الصدق في القول، والجد في العمل، إلى درجة قد تضايق الآخر، ولكن أثبت الوقت أنه الأحق. يعشق تعليم وتدريب الجميع دون استثناء بكل ما يعرفه هو.. يسدي النصائح، خاصة لصغار السن، ويجتهد في تنويرهم (وقد يكون ذلك من أهم أسباب توفيقه).

وأكمل: لم يتوانَ يومًا من الأيام في الوقوف إلى جانب كل محتاج، سواء طلب المساعدة أم لم يطلبها. كنت أتعجب دائمًا من حرصه الشديد على السؤال عن الجميع أيًّا كان، رجلاً أو امرأة، قريبًا أو بعيدًا، في سبيل الاطمئنان على ظروفه وأحواله الأسرية والمادية والوظيفية.. وعلى الفور يتدخل بكل ما أوتي من إمكانات لمساعدته، وكأنه أب له، حتى وإن كان هذا المحتاج يكبره سنًّا.

وحول أبرز عادات حجاب بن نحيت في شهر رمضان المبارك قال العميد أيوب إنه كان - رحمه الله - حريصًا على قضاء كامل شهر رمضان المبارك كاملاً في كل عام في مكة المكرمة بجوار الحرم المكي الشريف، يقرأ القرآن، ويصلي، ويفطر في الحرم، إضافة إلى زيارة أصدقائه الكُثر هناك.

وأضاف: في السنوات الخمس الأخيرة لم يذهب هناك، وكان يقول "أصبح لدي قناعة بأن أصلي بمدينة الرياض حيث أسكن خير لي إذا كنت أنوي بذلك أن أترك مكاني لغيري من المسلمين الذين لا يستطيعون الحضور لمكة إلا بكلفة وعناء"، بالرغم من أنه يتمنى الذهاب لمكة في رمضان.

وبيَّن أنه "في شهر رمضان الأخير من حياته عام 1439هـ أخبرني بنيته وإصراره على الذهاب هذا العام تحديدًا، وبقائه كامل الشهر. فقلت له: (يابوي الله يطول بعمرك، لعلك تستخير وتصوم عندنا مثل كل سنة، وأنت كبير بالسن؛ وتحتاج لرعاية واهتمام). لكنه قاطعني قائلاً: هل تضمن أن أعيش إلى رمضان القادم؟ قلت: لا والله، ما أحد ضامن غير الله سبحانه وتعالى. قال: أجل، لا تحرمني من التزود بالخير؛ فأنا بحاجة ماسة، ومَن يعلم؟ فقد يكون آخر رمضان أصومه بحياتي"!

الليلة الأخيرة

وتحدث العميد أيوب قائلاً: في الليلة الأخيرة التي بقي -رحمه الله- فيها بوعيه كان مجموعة من أبنائه وبناته حوله فيها وهو على السرير الأبيض، وحرص كل الحرص على تذكيرنا جميعًا بتقوى الله، والمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه، وشدد كثيرًا على أداء الصلاة في المسجد. وعندما بكت إحدى أخواتي قال لها حرفيًّا: "لا تبكي يا بنتي، لا تبكي، ابكي إن بقيت على هذا السرير حيًّا ومريضًا، ولكن وين أنا رايح! كلكم تعلمون أني رايح لواحد أرحم منكم وأكرم منكم ولا تشيلون همي أبدًا ما دام الله سبحانه ربي". وفجأة نظر إلى اثنين من إخواني الموجودين، ودعاهما كي يقربا منه، فدنوا إلى جواره تمامًا، وقال لهما بصوت خافت: "يا عيالي، احسبوا حساب مثل هذا اليوم، يومًا من الأيام ستكونون مكاني هنا، عليكم بالصلاة، عليكم بالصلاة".

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org