إن المتابعين للمتغيرات الاقتصادية الكارثية والأحداث السريعة الحادثة مؤخراً في كل مكان بالعالم، يدركون الآن أنه لا توجد دولة معصومة من فيروس "كورونا". هذا الفيروس القاتل الذي فرض مخاطره ورعبه على معظم أرجاء المعمورة أظهر بشدة أن الدول الصناعية الكبرى، بعجزها الضخم في موازناتها، والمصاعب المالية التي تواجهها بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، لم تبدأ حربها مع "كورونا" من موقع قوة، وما نتج عن ذلك من تفشي الفيروس بصورة وبائية، تبعته خسائر جامحة في البورصات العالمية، وتوقف حركة الإنتاج في عدد كبير من المصانع وشركات الخدمات خاصةً بدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي سوف يترك أثره السلبي لفترة غير قليلة من الزمن على اقتصادات هذه الدول والعالم ككل، كما نزيد على القصيدة بيتاً بشأن التحديات الأخرى التي تعرقل نمو الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى "كورونا"، من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والخلافات التجارية بين الدول وبعضها، وعلى رأسها الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ورفع شعارات الحمائية والذاتية، مما يهدد بانتهاء نظام العولمة وتوازن القوى الحالي، وحرية التجارة الدولية وهي أساس نظام العولمة.
شعار "أمريكا أولاً" واحتمالية تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة
يُعتبر إخفاق إدارة الولايات المتحدة الأمريكية في تقبل خطورة أزمة "كورونا" بمستواها الفعلي منذ بداياتها، ونظرتها إليها بمنظار أنها فرصة جديدة لتأكيد سياستها المعلنة حول عبارة "أمريكا أولاً"، وإثبات تفوقها المزعوم على باقي دول العالم، بمثابة تعريض زعامتها للعالم إلى مخاطر حقيقية، بل وضعها ذلك على المحك لدخول الصين للعب هذا الدور مستقبلاً. ويرى بعض الخبراء أن موقع الولايات المتحدة الرائد في العالم -وهو موقع تبوأته خلال العقود السبعة الماضية- لم يُبن على أسس الثراء الاقتصادي والقوة العسكرية فحسب، ولكن بُني أيضاً على أساس الشرعية من أسلوب الحكم الداخلي في البلاد، وقدرتها على توفير المواد والسلع والاستثمارات على النطاق العالمي، وقدرتها كذلك ورغبتها في حشد العالم لحل ومواجهة الكوارث والأزمات الكبرى بفاعلية وكفاءة واقتدار ومشاركة. لذلك فان وباء "كورونا" يعد امتحاناً للعناصر الثلاثة الأساسية للزعامة الأمريكية، فحتى الآن لم تنجح واشنطن في الاختبار.
فشل الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمة:
لا تبدو الأوضاع أفضل حالاً في دول الاتحاد الأوروبي، حيث بدأ فاشلاً في سياساته الوقائية والصحية والاجتماعية، بل ظهر متعثراً في ردة فعله، خاصةً من جهة عدم التضامن الكافي مع إيطاليا أحد مؤسسيه، والإغلاق المتأخر للحدود، الأمر الذي أدى إلى وضع كارثي من إيطاليا إلى إسبانيا وفرنسا وغيرها، وتحولت القارة العتيقة إلى بؤرة انتشار للفيروس القاتل، وانهيار للأسواق والإنتاج، والاستنتاج أنه لن تخرج أي دولة من الأعضاء سالمة من هذا الوباء الصحي والاجتماعي والاقتصادي.
"كورونا" تقدّم الصين كمرشح قوي لقيادة العالم
بينما تواصل أمريكا تعثرها، وكذا فشل أوروبا في التضامن للتصدي لأزمة "كورونا"، تتحرك بكين بسرعة وحنكة للاستفادة من الفرصة التي أتيحت بفضل الأخطاء التي ارتكبها الأمريكيون والأوروبيون على حد سواء، فالصين تقوم اليوم بملء الفراغ، وتصور نفسها على أنها زعيمة العالم فيما يتعلق بالرد على انتشار الوباء، فبينما أعلنت الولايات المتحدة أنها قررت إغلاق حدودها بوجه القادمين من عدة دول أوروبية، بما فيها إيطاليا، أرسلت بالفعل الحكومة الصينية فرقاً طبية ومواد ضرورية إلى إيطاليا البلد الأوروبي الأكثر تأثراً بالوباء، كما أرسلت مساعدات إلى فرنسا وصربيا وإيران للغرض نفسه، وكانت تلك إشارة لتصميم الصين على الخروج من هذه الأزمة كقوة عظمى.
وتجدر الإشارة إلى أن الصين تستخدم خبرتها ومعرفتها بوباء "كورونا" لمحاولة وضع ثوابت جديدة لعلاقاتها المستقبلية مع الولايات المتحدة وغيرها، علاقات قد تحوّل الصين إلى "قوة لا يستعاض عنها"، كما يمكن النظر إلى مبادرات الصين في توفير العون لجهود محاربة فيروس "كورونا" في دول جوارها –اليابان وكوريا الجنوبية– وتوفير المعدات الطبية الضرورية لدول الاتحاد الأوروبي من هذا المنظور.
محاولات الإنقاذ
هناك حقيقة مؤداها أن الأجهزة الإدارية القوية والثراء الكبير والإمكانيات الضخمة لكل من الولايات المتحدة التي تقود العالم حالياً، والاتحاد الأوروبي حليفها الاستراتيجي، سوف يسمح لهم باتخاذ كثير من الإجراءات اللازمة لمواجهة الفيروس في حالة عدم فوات الأوان، لذلك نجد أن الولايات المتحدة أقرت تخصيص مبلغ تريليوني دولار أمريكي لمواجهة الآثار الاقتصادية السلبية لفيروس "كورونا" على اقتصادها، منها 300 مليار دولار لتعزيز القطاع الصحي، كما بدأت في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمنع انتشارها في البلاد، هذا بالإضافة إلى القرار الأمريكي بشأن إرسال عيادة طبية تابعة للقوات الجوية الأمريكية إلى إيطاليا.
كما بدأ الاتحاد الأوروبي حركته للتعويض عن الفشل الأولي؛ حتى لا تسقط الفكرة الأوروبية واتفاقية شينغن ومكاسب عقود من العمل المشترك، ومنها إقرار بتخصيص 300 مليار يورو على شكل قروض للشركات المتعثرة، كما يجري البحث باقتراح إنشاء سندات "كورونا بوند" لتكوين صندوق ضمان أوروبي للمبادرات الوطنية لحماية الاقتصاد ومكافحة أثار أزمة "كورونا". ومع ذلك فهذه الإجراءات وحدها لن تكون كافية في حال عدم استخلاص الدروس والعبر، من دعم أولوية التنسيق الأمريكي-الأوروبي، والأوروبي-الأوروبي، والتعاون مع كل دول العالم في التصدي لهذا الوباء العالمي من ناحية، وتعزيز الميزانيات الصحية، إضافة إلى دعم استمرار حرية التجارة والتخلي عن الحمائية التي ظهرت خلال السنوات الماضية، مع التطبيق الكامل لاتفاقات منظمة التجارة العالمية.
لكل ما تقدم ونتيجة للأحداث والأفعال والنتائج الأولية، نرى أن انتشار وباء "كورونا" أدى إلى دفع دول العالم إلى مرحلة أكثر صعوبة وخطورة من تدني النمو الاقتصادي العالمي الحالي، بل قد يؤثر الفيروس بعد انحساره على شكل العالم، وتكتلاته، وقياداته، فعندما يتم إعلان النصر على الفيروس، سيكون لتعافي الاقتصاد الصيني دور حيوي ومهم على أقل تقدير في عملية إعادة تأهيل الاقتصاد العالمي المنهار، إيذاناً بميلاد نظام عالمي جديد.