قصر "ابر امزليل".. رمز للكرم والنبل القنوي لم تمحه السنون

لماذا أوقف مزارعه؟ وماذا دار بينه وأحد مشايخ بني شهر؟
قصر "ابر امزليل".. رمز للكرم والنبل القنوي لم تمحه السنون
تم النشر في

في قنا غرب منطقة عسير، يقبع قصر "ابر امزليل" الذي يحكي قصة كرم وإحسان خالدة تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل، ولا تزال سيدة المجالس وتشكل أحد الرموز التي تميز المكان والإنسان.

وقفت "سبق" على بقايا ذلك القصر ورصدت جانبًا من جوانب بنائه التي تحكي قصة الشيخ الذي بناه قبل 300 سنة وسط مطالب بإعادة ترميمه.

رؤية فكرية وهندسية

وأمام هذا قال أستاذ الأدب والنقد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك خالد الدكتور عبدالرحمن بن حسن المحسني، لـ"سبق": بُني القصر في عهد الشيخ "ابر امزليل"، وكان شيخًا لقبائل قنا حينها.

وقد تخيّره وفق رؤية فكرية وهندسية توحي بعقليات متميزة في تخير المكان والتصاميم البنائية حينها. ويتكون من ثلاثة أدوار شامخة تتوسط أرضًا زراعية ممتدة تتكون من أربعين قطعة زراعية تقع ذات اليمين والشمال للقصر ويسقيها عدد من المشارب المائية.

أما من الداخل فيظهر فيما تبقى منه عظمة البناء والقدرة الهندسية لمن قام ببنائه.

وتظهر الدعامة المنيفة التي جعلها وسط القصر لحفظ توازنه ولاستدارة الدرج عليها.

وصية "ابر امزليل"

ويضيف الدكتور "المحسني" أن عمر القصر يتجاوز الثلاثمائة سنة، وهو تاريخ شبه مؤكد؛ لأن وصية "ابر امزليل" التي حققها الدكتور أبو داهش، تؤرَّخ في محكمة قنا بـ1264، وقد كتب هذه الوصية في آخر حياته، مؤكدًا أن هذا القصر قد سبق في بنائه كتابة تلك الوصية.

ويحكي سكان المنطقة أن "ابر امزليل" بعد أن أتمّ بناء القصر جمع نواب القبائل المتفرقة في قنا ليجتمعوا في هذا القصر المنيف، وكأنه كان مزهوًّا ببنائه العظيم، وتخير في دعوتهم وقتًا مناسبًا؛ حيث تزيّنت الأرض وارتوت البلاد المحيطة بالقصر من كل جوانبه بالماء، وحينما أطلّوا من عليائه رأوا منظرًا مهولًا فانهالت كلمات الثناء على هذا القصر وصاحبه من الجميع إلا شيخًا يقال إنه من قبيلة "بني مرة" كان مساهمًا متأملًا سابحًا في عوالم أخرى.

وعندما سأله الشيخ "ابر امزليل" عن خبره أحاله إلى رؤية فكرية غيرت مسار اللقاء ومعطيات القصر وما أحاط به؛ إذ يقول سكان المنطقة: إن ذلك الشيخ قال لصاحب القصر ما يقترب من نص "لقد زانت لك الدنيا يا ابرامزليل، فبماذا زينت الآخرة؟ أو قريب من هذا".

والشاهد هنا أن هذه الكلمة غيرت ربما من تفكير "ابر امزليل" جملة واتجهت به إلى وجهة أخرى بدأ يفكر بعد تلك المقولة، وربما كانت سببًا في كتابته للوصية المشهورة ووقفه لمزارعه التي أرّخها بعام 1266هـ.

وهي تدلُّ من طرف آخر على مقدار الوعي الفكري عند "ابر امزليل" في تقبله الرأي الآخر، وتنمُّ عن نفسه الطيبة وروحه المتسامحة، ونظرته للمصلحة العامة لقبيلته.

وذكر الدكتور "المحسني" أن الشيخ "علي بن أحمد ابر امزليل" كان أديبًا خلدَ ذكرَه بشعره من جهة.

كرم "ابر امزليل"

يقول الدكتور "المحسني": تناقل الناس قصة "ابر امزليل" بروايات متعددة، لكن الروايات في مجملها تجمع على أمور تشكل جوهر قصته المشهورة التي خلدت، بل جعلت الناس في عموم منطقة عسير يعرفون قنا بها.

وهي أن شيخًا من بني شهر اسمه "ابن دحمان" وفد على صاحب له يطلبه في "ثورين"، كان وعده إياهما، فلم يكن معه ما يفي بما وعد، فذهبا إلى رجل مذكور في "تهامة"، لكنهما لم يجدا مطلبهما لديه ووجههما إلى صديقه في قنا الشيخ "ابر امزليل"، فلما وصلوا جميعًا إلى هناك ومعهم "ابن دحمان" الذي كان ممن يقرض الشعر، وحين رأى معالم الشباب على ذلك الشيخ المذكور بنبله وكرمه اندهش، وقال على البديهة شعرًا مستغربًا شهرته مع صغر سنه وقتها:

وهذا "ابر امزليل" اللي يطرى... ولا لحية ولا شارب نبات

ومن مفردة "يطرى" التي تعني انتشار شهرته نستدلّ على أن ذكره قد أصبح مشاعًا في آفاق المنطقة رغم صغر سنة الذي يدلّ عليه قوله: "ولا دقن ولا شارب نبات". وتكشف متابعة القصة أن "ابر امزليل" كان هو الآخر شاعرًا حاضر البديهة والشعر؛ إذ رد مباشرة بقوله:

إذا شب الفتى عشرين عامًا… ولم يملأ عيون المكرماتْ

فلا تفرح به إذ قيل: حي ... ولا تبك عليه إن قيل ماتْ

والبيتان تناقلهما الناس شفهيًّا بعدة روايات، وهي تشتمل على حكمة بالغة وتنم عن رؤيته التي تزيل اندهاش الشيخ الذي بدا في بيتيه السابقين.

إذ يرى أن الفتى يظهر نبوغه ونبله وحسن تربيته في فترة مبكرة، ولا يحسن به أن يتمادى في اللهو في صباه إذا كان يؤمّل لنفسه ما يؤمل، وإذا أتمّ العشرين سنة -كما يقول- ولم يدرك المكرمات ويدفع المكربات عن أهله وعشيرته فلا يفرح به حيًّا ولا يبكى عليه ميتًا.

وتستمرّ القصة حين يطلب الشيخ "ابن دحمان" وبالشعر أيضًا ما جاء من أجله هو ومن معه، وتؤكد القصة في سياقها هنا على حضور الشيخ "ابن دحمان" نفسه بدليل هذه الأبيات التي تصرح بأن الطلب كان له وبحضوره وليس غيره، يقول مخاطبًا شيخ قبيلة قنا:

أنا يا "ابرامزليل" معي بلاد ... وكان معي لها ثور فماتْ

وشربتْ من فروع للثريا ... فقالَ النوم في عيني وباتْ

بلاد "عيشة" السفهان منها … وعيشة لليتامى والبناتْ

وتنتهي القصة كما تذكر الروايات أن الشيخ "ابر امزليل" قد أحسن ضيافته وأعطاه ثورين ألحق بهما ثالثًا وحملهما متاعًا وكرمًا لضيوفه.

وقد تحولت هذه القصة وسيرة "ابر امزليل"، عمومًا في قنا، وما جاورها إلى ما يشبه الرمز الذي عرفت به.

وطالب الدكتور "المحسني" جميع الجهات المعنية وبينها بلدية قنا، التي اكتفت بزرع سارية وضع عليها العلم السعودي وكشافات تضيء واجهات من القصر، بأن يهتموا بذلك القصر ويعاد ترميمه بما يبقيه معلمًا ومزارًا يقصد، يحكي عن حقبة ثقافية وفكرية وتاريخية يعتزّ ويفتخر بها.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org