المجالس الأسرية السعودية هذه الأيام ربما ستستعيد النقاشات الطريفة التي كانت تدور بين بعض الأزواج وتعهدات بعض الزوجات؛ لكن السؤال بالنسبة للأزواج الذكور: هل ستفي قائدة السيارة بوعود سابقة لزوجها حول تخفيف الحمل عنه؛ فتتولى إيصال الأبناء إلى المدرسة، وإحضار مستلزمات البيت؟!
غير أن الأهم من إجابة ذلك، أن المئات -وربما أكثر من السيدات ممن ليس لديهم ذكور أو ذكور قادرون على القيادة- سيتمكنّ أخيراً من القيام بأمورهن وتوفير تكاليف النقل أو دفع رواتب السائقين وغيرها من المكتسبات العديدة، بالإضافة لتحقيق المطالبات بالتخلص من السائق الأجنبي.
تسارع مدهش:
التسارع المدهش في التغييرات والإصلاحات في المملكة العربية السعودية، لا يمكن نكران أنه غير مسبوق؛ بل إن السلاسة المثيرة المذهلة تظهر بوضوح من جانبين، الأول: من جانب الالتزام الحكومي بتنفيذ القرارات في الوقت المحدد لها، والتي اعتمدت من أعلى الهرم أو أقرت سابقاً، ومن الجانب الثاني: التقبل المجتمعي لتلك القرارات والذي يصل للترحيب الغالب -والمرحلي الطبيعي- مما يشكل توافقاً عالياً يندر أن يوجد في أي دولة أخرى.
إصلاح لن يتوقف:
هذا التسارع شَمِلَ ملفات كانت تُعَد أو تم تصويرها سابقاً كـ"تابو" لظروف مختلفة وفترات خضعت لتوجهات مراحل معينة؛ غير أن الإصلاح الشمولي الكبير هذه المرة لن يسمح بأية تأجيلات غير مبررة.
آخر تطبيق لقرار محوري وتأريخي كان قبل يومين؛ حيث بدأ التطبيق الفعلي لقرار السماح للسعوديات بقيادة المركبات، ومر اليوم الأول هادئاً، وتَلَقّت السيدات اللواتي قُدن في اليوم الأول ترحيباً كبيراً على المستوى الرسمي والشعبي، وبعكس كل التوقعات الطريفة وغيرها؛ تلاشت المبالغات، واحتفى الجميع محلياً -وحتى بإشادة عالمية- بحصول المرأة السعودية على مسار جديد من "التمكين"، والذي سيساعدها -بلا شك- على القيام بأدوارها الوطنية، كما سينعكس اقتصادياً على الكثير من المكتسبات وفي مقدمتها التوقعات الكبيرة بالتخلي عن "السائق الأجنبي"؛ مما يعني توفير المليارات السنوية لصالح البلد بدلاً من خارجه.
إشكالية دينية ومجتمعية:
يقول الكاتب والإعلامي المعروف عبدالرحمن الراشد في مقال بعنوان "بلد المليون سائق": "120 ألف امرأة تقدّمن بطلب رخصة قيادة، فور فتح الباب وإنهاء الحظر، رقم يعبر عن التأييد الشعبي الذي لم نكن واثقين منه قبل ذلك؛ نظراً لأن السماح للمرأة بقيادة السيارة كان إشكالية دينية واجتماعية لفترة طويلة من الزمن".
ومضيفاً: "هذا التجاسر الحكومي النادر من نوعه في تاريخ السعودية على كسر المحظور اجتماعياً؛ نراه يحقق نتائج سريعة ومدهشة، ويقود المجتمع عموماً نحو التغيير".
ويرى "الراشد" أنه: "لا بد أن السلطات الرسمية كانت قد وضعت في حسبانها الكثير من الاحترازات تحسباً لردود الفعل السلبية الرافضة، ولا بد أنها نشرت آلافاً من رجال الشرطة العلنية والسرية في أنحاء البلاد؛ لضمان تطبيق النظام، والحفاظ على السلم الاجتماعي.. وقد مر التغيير بسلام".
صناعة التحسين المستمر:
الترحيب العالمي وإن كان غير "مهم" في نظر صانع القرار السياسي في المملكة؛ لاهتمامه بتسريع عجلة التطوير والإصلاحات -كشأن داخلي- كان كبيراً؛ غير أن الرأي الذي سينظر له من أجل التحسين هو الرأي الشعبي والمعنيات بالأمر، وهو أمر تستلهم منه قيادة الوطن صناعة التحسين المستمرة.
هذا الرأي جاء مرحّباً ومؤكداً على الكثير من المصالح المنتظرة من قرار كهذا، سبقته قرارات لا تقل عن عشرة قرارات في أبرز قضايا المرأة السعودية، وكلها دعمت حقوقها وفق الاعتبار الشرعي، ومن أبرز ذلك حقوق القاصرات وحقوق الحضانة والنفقة.
البلد الوحيد:
وتنقل "فرانس برس" في تقرير لها عن السعودية "ريم فرحات" كيف قادت سيارتها في اليوم الأول كإحدى سائقات السيارات التابعة لمقدم خدمة نقل عبر التطبيق، مع 12 سيدة أخرى يعملن في الخدمة لكسب عيشهن؛ وذلك بعد القرار التاريخي لتترك السعودية صفة كونها البلد الوحيد في العالم الذي لا تستطيع فيه النساء قيادة السيارة، وتصل فيها نسبة طالبات خدمة النقل من السيدات إلى 80% وفقاً لإحصاءات "أوبر".
دعم وترحيب:
من الأمور الملفتة وكتعبير عن الدعم الكبير، إصرارُ الكثير من أزواج قائدات السيارات في الأيام الأولى -أو أقارب من الدرجة الأولى- على مرافقتهن.
وبرغم حضور الرغبة في الدعم؛ فإن الاحتفال باللحظة كان عظيماً، ورصدت الكثير من وسائل الإعلام تصريحات من رجال لأول مرة يتبادلن مقعد السائق مع زوجاتهن أو بناتهن.
التنظيم الرسمي وما قام به المرور كجهة رسمية معنية بالدرجة الأولى كان رائعاً، وتدرج الخطوات بشكل مرتب، وتمرير التعليقات والتجهيزات المطلوبة على مراحل كان سلساً وواضحاً، وكان يتم التوضيح بشكل مستمر لأي تعليمات قد تكون غير واضحة لدى بعض السيدات؛ بل إن التزام المرور السعودي بعدم السماح بالانطلاق قبل الموعد المحدد يمكن الجزم أنه بقي حتى الثواني الأخيرة.
نحن في وسط أهلنا:
كمثال على ذلك تروي "علا المرزوقي" الرئيس التنفيذي لمؤسسة "العزم الحسن" لـ"الشرق الأوسط" تفاصيل يومها الأول قائلة: أريد أن أذهب لمنزل والدتي لأني وعدتها أن يكون أول مشوار لي في جدة معها، كان معي زوجي وابنتي في السيارة، أحسست أنني أضعت الطريق!.. رد فعل السيارات الأخرى في الشارع كان مشجعاً جداً.. ابتسموا لي وافسحوا الطريق.. وحتى عندما كنت أبحث عن مكان لصفّ سيارتي؛ قام أحد الأشخاص بتغيير وضع سيارته ليوفر لي مساحة. نحن في وسط أهلنا وأقربائنا، وأتوقع منهم أن يكونوا معنا دائماً، كما أن القوانين الجديدة رائعة".
الجهل بالتاريخ والتقاليد:
وعودة إلى حديث "الراشد": "الذين ينظرون بتهكم إلى التغيير؛ عدا عن جهلهم بالظروف التاريخية والتقاليد المحلية من موروثات من الممارسات الخاطئة؛ لا يدركون أنه ليس سهلاً مواجهتها، وهو مماثل لما واجهته السلطات الأمريكية المحلية في الولايات بعد أن كانت تسمح بالتمييز العنصري، وتمنع السكان غير البيض من الدراسة والتنقل والعمل والأكل في الأماكن نفسها مع البيض. أمريكا كبلد حضاري عانى -ولا يزال يعاني- من الموروثات الاجتماعية السيئة، وهذا هو الحال في السعودية تجاه المرأة".
السعودية التي تمضي في تنفيذ رؤية وطنية طموحة، أثبتت خلال العام الماضي وحتى الوقت الحالي أن التنفيذ الدقيق والالتزام بالطموحات ليس خياراً؛ بل هو مستقبل شعب يحظى بأولوية لدى قيادته، وأن القادم الأجمل هو بحجم ما مضى وأكثر بمشيئة الله تعالى.