يحتفل العالم في 31 مايو من كل عام باليوم العالمي للامتناع عن التبغ، ويهدف احتفال هذا العام إلى حماية الأطفال والشباب من أساليب التسويق المخادعة التي تنتهجها صناعة التبغ في البلدان، مع المساهمة في حماية الأجيال الحالية والمقبلة من العواقب الصحية المدمرة للتبغ، وأيضًا الأضرار الاجتماعية والبيئية والاقتصادية لتعاطي التبغ والتعرض لدخانه.
من جهته، أوضح الدكتور عبدالرحمن يحيى القحطاني خبير تعزيز الصحة والتواصل الصحي، أن تعاطي التبغ يعد واحدًا من أكبر المهددات الصحية في المملكة، وكما تشير منظمة الصحة العالمية، فهو سبب رئيس للوفاة والعجز، ويقتل نصف من يتعاطونه تقريبًا.
وأكد "القحطاني" أن تعاطي التبغ يمثل عبئًا اقتصاديًا كبيرًا على التنمية في المملكة، وكشف أن شركات صناعة التبغ تعمل جاهدةً لاستهداف المراهقين والشباب من كلا الجنسين بطرق مخادعة ومعقدة وبمنتجات مبتكرة.
وأضاف أن تقرير المسح الصحي الوطني لعام 2023م الصادر عن الهيئة العامة للإحصاء أظهر أن نسبة المدخنين لأي نوع من أنواع التبغ في الفئة الشبابية (15-24) من المواطنين تصل لما يقارب من 14.5% لدى الذكور، وتقريبا 1.3% لدى الإناث، أما الفئة العمرية (25 - 34) من المواطنين فترتفع النسبة لتصل إلى ما يقارب 34% للذكور و3.75% لدى الإناث.
وأشار إلى أنه ووفقًا للاستراتيجية الوطنية لمكافحة التبغ، فقد بلغ العبء الاقتصادي لتعاطي التبغ عام 2018 ما يقارب من 20 مليار ريال، ويمثل ما يربو على 23% من الميزانية المخصصة لوزارة الصحة لعام 2024م، كما توقعت الاستراتيجية أن تبلغ التكلفة الإجمالية التراكمية من عام 2018 إلى عام 2030 ما يقارب من 480 مليار ريال، مع فقدان سنتين من متوسط العمر.
وأكد خبير تعزيز الصحة أنها أرقام ومعطيات مقلقة للغاية ستؤثر بلا شك على مستهدفات رؤية 2030، إذا لم يتم التعامل معها وفق آلية مؤسسية شاملة ومتكاملة، وهو المرجو من اللجنة الوطنية لمكافحة التبغ مع القطاعات الشريكة.
وأوضح أن 70 ألف وفاة سنويًّا في السعودية تُعزى لتعاطي التبغ، وفقًا لتصريح وزير الصحة الأسبق عام 2017، وهذا يعني 192 وفاة يوميًّا، وبمعدل 8 وفيات كل ساعة.
وأضاف د.القحطاني أن الأبحاث والوثائق السرية لشركات صناعة التبغ توضح بما لا يدع مجالا للشك، أنها تتعمد هندسة منتجاتها لتصبح أكثر إدمانًا. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة "حملة أطفال بدون تبغ" الأمريكية عام 2014 بعنوان "صُممت للإدمان"، فإن تلك الشركات تتعمد وضع مركبات كيميائية معقدة لتسريع عملية إيصال النيكوتين لخلايا الدماغ وتسريع عملية امتصاصه، كما تضيف مركبات أخرى تُسهل عملية حرق وسرعة استنشاق السجائر، وثبت علميًا أن بعض تلك المواد عامل خطورة للإصابة بأنواع متعددة من السرطانات.
وتابع: كما تتفنن تلك الشركات في معالجة السجائر التقليدية أو الإلكترونية بطرق تجعل تجربة التعاطي أكثر سلاسة ونعومة في الطعم والنكهة، وأكثر جاذبية للمدخنين الصغار والمبتدئين، وتصرف مئات الملايين لإجراء الأبحاث والدراسات على ذلك.
وأضاف د.القحطاني أن منظمة الصحة العالمية في تقاريرها تشير إلى أن شركات التبغ تعمد إلى هندسة منتجات التبغ بأنواعها المتعددة؛ للتحكم في حجم جزيئات الدخان لزيادة كفاءة اختراقها وامتصاصها في الرئة، وزيادة تحفيز بعض الأعصاب في تجويف الفم والممرات الهوائية العليا للرئة، وكذلك استخدام مجموعة واسعة من المواد المضافة الكيميائية لجعل الدخان أكثر سلاسة ونعومة وبرودة وأكثر متعة؛ من أجل تسهيل الاستنشاق العميق والانتقال إلى الإدمان.
وأفصح خبير تعزيز الصحة أن شركات صناعة التبغ في معظم دول العالم تمارس طرقًا خادعة، معقدة وشرسة، لترويج منتجات التبغ بين فئة المراهقين والشباب، وقد أثبتت الوثائق السرية لتلك الشركات، التي أفصحت عنها بناءً على حكم قضائي في الولايات المتحدة، أنها تستهدف بشكل استراتيجي متزايد فئة المراهقين والشباب من كلا الجنسين بطرق ترويجية مبتكرة ومتجددة مباشرة وغير مباشرة.
وكشف عن وثيقة سرية لباحثة تعمل لدى شركة صناعة التبغ "آر جيه رينولدز" قولها: إذا أردنا لشركتنا البقاء والازدهار على المدى الطويل فلا بد لنا من الحصول على حصتنا من سوق الشباب، مضيفةً أن هذا يتطلب طرح أنواع للسجائر تحمل أسماء جديدة تكون مصممة لسوق الشباب تحديدًا.
وتابع القحطاني أن منظمة الصحة العالمية أفادت بأن تلك الوثائق السرية تقدم أدلة دامغة على الاهتمام القديم لشركات التبغ بإغراء الصغار للتعاطي، وعلى سبيل المثال جاء في وثيقة ممهورة بخاتم "سري" لشركة آر جيه رينولدز عام 1976م "أن ثمة دلائل تشير إلى أن الفئة العمرية (14 - 18) سنة تمثل قطاعًا متزايدًا من المدخنين، ولذلك فإن الشركة لا بد أن تطرح قريبًا سجائر تحمل اسمًا تجاريًا جديدًا ناجحًا في هذا الحيز من السوق، إن هي أرادت أن تحافظ على مركزها في صناعة التبغ على المدى الطويل".
ويضيف د.القحطاني أن هذا مجرد مثال واحد لشركة واحدة فقط، فالوثائق السرية تكشف الكثير من أساليب جميع شركات صناعة التبغ العالمية في استهداف المراهقين والأطفال والنساء.
وحول الوثائق السرية لشركات صناعة التبغ المتعلقة بالمملكة، أشار خبير تعزيز الصحة إلى أن هناك العديد من الوثائق السرية التي تخص المملكة منشورة في مواقع الإنترنت المتعلقة بذلك.
وأضاف أن بعض تلك الوثائق أفصحت عن إجراء دراسات على فئة الأطفال بالمملكة من قبل بعض شركات صناعة التبغ في استهداف صارخ لأنظمة المملكة، وعلى سبيل المثال أظهر تقرير صادر عن شركة فيليب موريس عام 1993 إجراء دراسة مسحية على فئة المدخنين اليافعين والمراهقين بالمملكة في الفئة العمرية (13 - 24) سنة؛ بهدف معرفة توجهاتهم ومعلوماتهم وعاداتهم وسلوكياتهم ذات العلاقة بالتعاطي، شملت التوجهات والقيم الاجتماعية، وعادات التسوق والأنشطة الترفيهية، ومعرفتهم بأنواع السجائر وطرق الترويج، وتصوراتهم عن التعاطي.
ووجّه د.القحطاني دعوته للنيابة العامة لفتح تحقيقات شاملة تجاه السلوكيات المحتملة غير النظامية لشركات صناعة التبغ في المملكة، بما في ذلك استهداف الأطفال والمراهقين.
وأكد أهمية استثمار تلك الوثائق السرية المنشورة، وقال: "من الضروري بمكان الاستعانة بخبراء مختصين للبحث في الوثائق السرية لشركات التبغ وتحركاتها في المملكة وتحليلها وتجميع البراهين وتنظيم وتحليل الأدلة والتي يمكن أن تمثل أدلة إثبات تؤسس على ضوئها الدعاوى".
وأضاف أنه غنيّ عن القول الإشارة إلى أن هذا النوع من التحقيقات محفوف بالعديد من الصعوبات والتحديات، ويحتاج إلى استعداد وجاهزية قانونية دقيقة والبحث بشكل متعمق في تلك الوثائق.
وأكد ضرورة الاستفادة من العديد من الوثائق المهمة لدى مكتب منظمة الصحة العالمية لشرق البحر المتوسط المعنية بتحليل مستندات صناعة التبغ، ومنها وثيقة "صوت الحقيقة" المؤلفة من جزأين يمثلان أدلة جديدة للأعمال الخفية التي تديرها تلك الشركات في دول الإقليم ومنها دول الخليج، وكذلك وثيقة "العدالة في دعم الصحة" التي تتحدث عن التجارب الدولية في مقاضاة شركات التبغ، ويمكن تحميل تلك الوثائق من موقع مكتب المنظمة.
وصرح د.القحطاني بأن العديد من دوائر صناعة التبغ اتجهت بشكل غير مسبوق لمنتجات السجائر الإلكترونية سواء التبغية أو غير التبغية، وأصبحت سوقًا رائجة تدر المليارات سنويًا على تلك الشركات.
ويضيف: "مما يثير الكثير من القلق أن تسويق السجائر الإلكترونية يستخدم ذات الاستراتيجيات الترويجية لشركات صناعة التبغ لاستهداف الأطفال والمراهقين، ولا أبالغ إذا قلت إنها تستخدم استراتيجيات ترويج أكثر مراوغة وشراسة من سابقها، خصوصًا مع استخدام منصات الإعلام الرقمي، بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي، واستخدام الشخصيات المؤثرة في الشباب، ومشاهير تلك المنصات في تطبيع التعاطي واعتياده".
وذكر أن الدراسات والمسوحات المعنية باستخدام تلك المنتجات الحديثة في المملكة ما زالت محدودة، وعقّب بقوله: "من خلال قراءة المعطيات والتقارير الدولية، ووبائيات تعاطيها في الدول الأخرى، وسلوكيات الشركات المنتجة لها في استهداف اليافعين، أكاد أجزم بأنه وخلال عقدين من الزمن ستنتشر تلك المنتجات وغيرها من المنتجات الحديثة انتشارًا كبيرًا بين فئة الأطفال والمراهقين في المملكة، وستصبح مهددًا رئيسًا للصحة العامة إذا لم يتم تدارك ذلك بمنهجية وطنية شاملة ومتكاملة".
وأضاف أن لدينا أمثلة واضحة جدًا في العديد من الدول الأخرى، فقد زاد استخدام السجائر الإلكترونية على سبيل المثال في الولايات المتحدة بين الشباب زيادة هائلة، حيث أفاد تقرير صادر عام 2015 عن كبير جراحي الولايات المتحدة بأن استخدام السجائر الإلكترونية لدى طلبة مرحلة الثانوية ازداد بمعدل تسعة أضعاف، ووصف تعاطي تلك السجائر بمستويات "وبائية".
ونوه د.القحطاني إلى تقرير صدر هذا العام عن منظمة الصحة العالمية ومؤسسة إيقاف منظمات ومنتجات التبغ (STOP)، بعنوان "ربط الجيل القادم: كيف تستقطب صناعة التبغ عملاء صغار"، حيث يبين تجاوز معدل تعاطي السجائر الإلكترونية بين المراهقين معدل تعاطي البالغين في بعض البلدان، وأفاد مسح في الإقليم الأوروبي بأن 20% من الأطفال البالغين من العمر 15 عامًا عن تعاطيهم السجائر الإلكترونية خلال الثلاثين يومًا السابقة. كما يشير التقرير إلى أنه وعلى الرغم من التقدم الكبير المحرز في الحد من تعاطي التبغ، فإن ظهور السجائر الإلكترونية وغيرها من منتجات التبغ والنيكوتين الجديدة يمثل تهديدًا خطيرًا للشباب ومكافحة التبغ.
وأكمل: وتبيّن الدراسات أن استخدام السجائر الإلكترونية يزيد من تعاطي السجائر التقليدية، لاسيما بين الشباب غير المدخنين، بنحو ثلاثة أضعاف.
وأكد أنه من أخطر أساليب الترويج الفجة لتلك السجائر الإلكترونية وغيرها من المنتجات الحديثة بأنها أقل ضررًا من غيرها، وهي دعاية مبطنة مخادعة قد تُحفّز غير المتعاطين لتجربتها ومن ثم السقوط في إدمانها، وأكد على ما نشرته منظمة الصحة العالمية من أن السجائر الإلكترونية قد تخلق جيلًا جديدًا من صغار السن من مستخدمي النيكوتين، وقد تقوِّض التقدم المُحرَز في الحد من استخدام التبغ وإدمان النيكوتين.
وأضاف: علينا أن نتذكر جيدًا التاريخ المظلم لشركات صناعة التبغ في ترويج السجائر التقليدية، حيث كانت تتلاعب ببعض المراكز البحثية والباحثين، وتنشر دراسات مضللة ومخادعة بأنها غير ضارة، وهو ما أفصحت عنه الوثائق السرية.
وحول أضرارها، ذكر د.القحطاني أن العديد من الأبحاث بدأت تُظهر أضرار السجائر الإلكترونية على القلب والأوعية الدموية والرئتين، وفي اعتقادي أن هذا ليس سوى رأس جبل الجليد، فالأضرار والمخاطر طويلة الأجل للاستخدام الحصري للسجائر الإلكترونية ليست معروفة تمامًا، ومن السابق لأوانه تقديم إجابة واضحة حول الأضرار طويلة المدى لاستخدامها أو التعرض لها؛ لكونها من المنتجات الحديثة نسبيًا. كما تحتوي على نسب متفاوتة من النيكوتين المسبب للإدمان، والذي يؤثر على نمو الدماغ لدى الأطفال والمراهقين.
وشدد على أن ضررها لا يقتصر على النيكوتين فقط، ولكن على المواد الكيمائية التي تضاف لها، كالمذيبات والمنكهات، والتي لا يُعرف حتى الآن ضررها على المدى الطويل.