ينهج البعض معيارًا بسيطًا في التربية قد يقلبها رأسًا على عقب، ويضرب بكل نظرياتها عرض الحائط؛ فقد يقول قائل منهم: "ما بقي شيء ما سويته مع ولدي ولا نفع فيه، وولد جيرانا ما يدرون عنه أهله وهاديه ربي".
وبعد التأكد من صحة طُرُقهم المتبعة، وصحة رواية ابن الجيران؛ نقول: إن تلك الحالات نَعَم قد تحدث!
نَعم قد يحصل أن يوفر الله أسباب الهداية والحفظ والتوفيق لمن كانت ظروفه أبعد ما يكون عن التربية الدقيقة والسليمة؛ فتجده راضيًا مرضيًّا هاديًا مهديًّا، وعلى النقيض نجد آخرَ وقد بُذل في رعايته وتربيته كل نفيس من وقت وجهد ومال؛ ولكن خابت ظنون والديه، وحاد عن الطريق الصحيح دراسيًّا أو أخلاقيًّا أو حسب أي معيار يحددونه في تفسير الفشل.
القضية هنا أن ما سبق ذكره
"حوادث عارضة"
وقد تحصل لأسباب يغلّفها الكثير من الحكمة والامتحان ومقاييس للصبر والرضى، كما تخفى على العيان بواعث وأسباب خفية كدعوة خفية أو عمل صالح أو معلم ناصح كان له الأثر رغم غياب وقعه عن الصورة الكلية، ورغم ذلك لا يمكن الاعتماد عليها كقاعدة أو منهج في تربيتنا لأبنائنا؛ لأنه كما يُعرف في جميع نواحي الحياة أن لكل قاعدة شواذ، ولا يمكن البناء على فرضيات كتلك لتكون قاعدة ننهجها في أمور غاية في حساسية؛ ألا وهي أبناؤنا..
ما دعاني في حقيقة الأمر لذكرها وكتابة هذا المقال، هو تبني الكثير لتلك القاعدة، وهم في واقع الأمر ممن يتكاسلون أو يعترضون على أساليب التربية؛ معللين أن جهودهم ليست ذات أهمية ويختتمون فلسفتهم المثبطة بالمقولة الشهيرة: "يا بنت الحلال الهاااادي الله"
لا أشكك في الشطر الثاني من مقولتهم؛ ولكن النقاش يكمن حول الجزئية الأولى.
أيها المربي الفاضل، أرجوك لا تركن لتلك القاعدة تبريرًا لكسلك أو إهمالك أو تهربك من المسؤولية، ولا تلجأ لها عندما تريد منفذًا لأخطائك أو تنويمًا لضميرك.
أرجوك لا تخدع نفسك!
فالمحاولة حتى آخر رمق هي واجبنا في هذه الحياة تجاه أبنائنا، وبذل الأسباب كافة في سبيل تربية واعية إيجابية، أما الهداية فليست ضِمن حدود قدراتنا، والاستمرار في دعوتهم وتوجيههم بالتي هي أحسن مطلب رباني وإن خابت بعده الظنون كما نعتقد..
فكم من أبناء حادوا ثم عادوا..
وكم من بنين كاد الرجاء أن ينقطع منهم، لولا ثبات ذويهم بالغرس الدؤوب والموعظة الحسنة، حتى أينع قِطافهم بوادٍ كان ظاهره غير ذي زرع..
"يا بني اركب معنا"
قالها نوح عليه السلام لابنه وظل يحاول دعوته وهدايته حتى آخر لحظة قبل أن يدركه الغرق؛ ولكنها مشيئة الله وامتحان لصبر نوح عليه السلام، ودرس للبشرية أجمع، أن أمر الله لا غالب عليه.. والتأمل في قصص القرآن يعطينا الأمل وكيف أنه سبحانه إذا أراد الهداية لشخص ما؛ يَسّرها ولو كان أباه مشركًا أبًا عن جد كسيدنا إبراهيم عليه السلام.
أما موقفنا بين تلك الدروس؛ فهو التسليم والتفويض لله، وعدم التخاذل مهما كانت بوادر جهودنا في التربية غير مرضية؛ فالمحاسبة ستكون على الجهد لا على النتيجة.
فاجتهد وأحسن النية وابذل الأسباب كما ينبغي لأقصى مدى تصل إليه همتك، ثم سلّم أمرك لهادي العباد، واستودعه جهودك لعلها تفوق توقعاتك وتقر عينك بهم فلا تحزن ولا تجزع بشقائهم أبدًا.