هذه قضية تفتح محاذير كثيرة، لكن يجب طرحها من أجل تعليم حقيقي وناجح، يتجاوز المساحيق التي نضعها، التي لا تلبث أن تزول؛ إذ إن الإشكالية التي نعانيها هي قيود السلطة التربوية – أيًّا كان نوع هذه السلطة - في تكبيل إبداع الطلاب، وبناء المجتمعات، والتعويد على الفكر الحر والنقدي. فنأخذ رأي الطلاب فيما يدرسون، وماذا يودون أن يدرسوا، ونسمع آراءهم فيما يقرؤون أو يشاهدون؟ فيكفي أن نحبس أجسادهم ست ساعات متواصلة، ثم إطلاق العنان لخيالاتهم للتحليق والبروز.
في اعتقادي إن المشكلة تكمن في جذور إنشاء المدارس في الأصل، التي قامت على فكرة تحويل الطالب من عنصر بشري إلى ترس رأسمالي؛ لينتقل من خدمة المجتمع إلى خدمة المصنع كما حدث في أمريكا. وهكذا ترسخت قيمة هذا الفرد فيما يستفاد منه كمشروع إنتاجي نافع، وليس بالضرورة تأهيله ليكون حرًّا. ورغم الانتقادات التي طالت هذه الطريقة من عدد كبير من التربويين والمفكرين - يعد أبرزهم البرازيلي فريري - إلا أن المدرسة لا تزال تواصل طريقتها في قمع أي محاولة للتمرد على السائد، أو الإبداع الفكري، أو التفكير بطريقة مختلفة، بل وصلت مؤسسات التربية في كثير من دول العالم ألا تعترف بتعلم أي طالب درس ذاتيًّا حتى يحصل على كرتونة الشهادة من مؤسساتها النظامية، ولو أثبت أنه فاق أقرانه في المدارس النظامية.
استطاع التعليم الأمريكي تجاوز أخطاء النظام المدرسي، وذلك نتيجة الجو الأكاديمي الحر، والنقد الدائم لسياسات التعليم، واستطاع أن يتميز في أساليب تربوية كثيرة، كتشجيع الإبداع الطلابي، وحب الاستطلاع والمغامرة؛ وهذا ما دعا وزير التعليم السنغافوري السابق إلى أن يفسر إخفاق طلاب سنغافورة في حياتهم العملية بعد الدراسة - على الرغم من تفوقهم في امتحان الرياضيات والعلوم الدولية - بعدم تنمية المواهب لديهم، وإنما يتركز تعليمهم على الامتحانات.
حدد جريجوري إس في كتابه (علموهم أن يتحدوا السلطة) غرض التعليم في بناء أفراد قادرين على التفكير الحر والنقدي والتحليلي بعيدًا عن مصادر المعرفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأهمية تزويد الطلاب بأدوات النقد، وتدريبهم عليها، والسماح بإبداء آرائهم، وتنمية خاصية الاختيار والمشاركة دون خوف من السلطة أو الأعراف.. ويخلص إلى ضرورة استماع المؤسسات التربوية إلى الطلاب، وجعلهم فاعلين في تعليمهم، لا مفعولين. وعلى نقيض ذلك لدينا دارسون في مرحلة الدكتوراه، لا يتاح لهم اختيار موضوع الدراسة الذي يرغبونه، أو يشكل لهن هاجسًا، فتُفرض عليهم القضايا والمواضيع من أقسامهم أو مشرفيهم فرضًا، دون أدنى تفاوض أو مشاركة؛ فيخرجون إلى المجتمع وهم لا يمتلكون أبجديات نقد قضية مثارة، أو حتى تحريرها.
أتساءل الآن: ما فائدة هذه المليارات التي ننفقها في التعليم في هذا الكم الهائل من برامج الإيفاد والابتعاث والخبرات والدورات الفصلية واليومية دون أن نضع المشرط على الخلل الذي ندركه ونؤمن بأهميته من تغيير السياسات التعليمية، وتنويع أساليب التعلم؛ فليست العبرة بهذه الكثرة من البرامج والمشروعات؛ إذ ربما الكثرة أحيانًا تعني القلة.. الكثير من الهدر، والقليل من الفائدة.