
من إعجاز القرآن الكريم؛ ما جاء في علوم البلاغة من بيانٍ ومعانٍ ومحسّنات بديعية تُعدُّ من الوسائل الأساسية لفهم كلام الله، جلّ في علاه، الذي نزل بلغة العرب، ولا يمكن فهمه إلا من خلال تعلُّم فنون بلاغته، كما أن الإلمام بعلومه سبب رئيس في إدراك أحكامه وقضاياه ومعاني إعجازه الإلهي.
وخصّصت "سبق"، في الحلقة الرمضانية "الثالثة والعشرين" من "قبسات بلاغية"؛ الحديث عن بعض من بلاغة "الطباق والمقابلة" في القرآن، وتستضيف فيها وبشكلٍ يوميٍ طوال شهر رمضان المبارك، دكتور البلاغة والنقد "زيد بن فرج الخريصي".
وقال المتخصص: "الطباق والمقابلة من المحسّنات المعنوية؛ وهي المحسنات التي يكون التحسين فيها راجعًا إلى المعنى، ومن هنا جاءت تسميتها بالمعنوية، ويسمى الطباق: التضاد، والمطابقة، والتطبيق، ويعرفه البلاغيون بأنه: الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة، وله ثلاثة أنواع: طباق الإيجاب، وطباق السلب، وإيهام التضادّ، ولها مفاهيمها وقيودها الخاصة. وأما المقابلة فنوع من الطباق، وهي: أن يؤتى بمعنيين متوافقين، أو معان متوافقة، ثم بما يقابلها على الترتيب، وتتعدَّد المقابلة؛ مقابلة اثنين باثنين، ومقابلة ثلاثة بثلاثة، ومقابلة أربعة بأربعة، ومقابلة خمسة بخمسة، ومقابلة ستة بستة".
وأضاف "الخريصي": "ثمة فرق بين الطباق والمقابلة، ويتلخّص في نقطتين اثنتين، يقول الدكتور "عبد العزيز عتيق": "الفرق بين المطابقة والمقابلة يأتي من وجهين:
أحدهما أن المطابقة لا تكون إلا بالجمع بين ضدّين، أما المقابلة فتكون غالبًا بالجمع بين أربعة أضداد: ضدين في صدر الكلام، وضدين في عجزه. وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد: خمسة في الصدر، وخمسة في العجز".
وتابع: "الثاني: أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد، على حين تكون المقابلة بالأضداد وغير الأضداد، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة وأعظم موقعًا، نحو قوله تعالى: "وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" "القصص: 73"، فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان، ثم قابلهما بضدين هما السكون والحركة على الترتيب، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف فاكتسب الكلام بذلك ضربًا من المحاسن زائدًا عن المقابلة؛ ذلك أنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل؛ لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة".
وعن الشواهد والآيات القرآنية في "المقابلة": قال الدكتور "الخريصي": منها ما جاء في قوله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، "آل عمران: 26"؛ حيث قابل بين "تؤتي"، و "تنزع"، وبين "تعز"، و"تذل"، والسّر من مجيء المقابلة في هذه الآية، يقول الدكتور "حسن إسماعيل عبدالرزاق": "ولمّا كان الغرض من هذه الآية الكريمة هو: تصوير القدرة في أوسع معانيها، وبيان السلطان في أشمل مظاهره وأكملها، فإن ذلك لا يتم إلا بالجمع بين الضدين، والحكم بأنه يقدر على الأمرين: الإيتاء أو ما في معناه، والنزع أو ما في معناه، وكذلك: الإعزاز والإذلال.
وواصل حديثه قائلًا: "على أن ذكر المقابل لا بد منه في صياغة مثل هذا الغرض؛ لأنه قد يقدر شخص على الإيتاء ولكنه لا يقدر على النزع، ويستطيع إنسان أن يعزّ، ولكنه قد يعجز عن الإذلال، ومع هذا فإنك لا تضنّ عليه بوصفه بالقدرة، ولكنّ المضنون به عليه هو الحكم له بالقدرة التامة والسلطان الشامل".
وأردف دكتور البلاغة والنقد: أن من شواهد الطباق ما جاء في قوله تعالى: "وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا" "النجم: 43-44"؛ حيث وقع الطباق بين "أضحك وأبكى"، وبين "أمات وأحيى"، وفي مجيء هذا الطباق معنى دقيق يتمثّل في "أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أضحك؛ أي: أدخل السرور والبهجة والمرح والسعادة على النفس البشرية، وهو أيضًا الذي أبكى؛ أي: أدخل الحسرة والألم والتعاسة والشقاء على النفس الأخرى بشكل كامل ومتطابق؛ ولذلك لم يقل: " أحزن وأرضى"، بل جاء بدليل الفرح والسرور بكلمة أضحك، وبدليل الحزن بكلمة "أبكى".
وقال: "يبدو ذلك أيضًا واضحًا في المطابقة بين "أمات"، "أحيا"، فالإماتة: لفظ يدل على زوال الحياة وانتهائها، زوالًا كاملًا، بينما الفعل "أحيا" يرمز للنقيض تمامًا؛ إذ يبعث الحياة ويبثّها في كل ما هو جماد، فيجعله حيًّا، يتحرّك، وينطق، ويحسّ، ويصبح صورة متناقضة تمامًا مع صورة الموت والفناء والزوال".
وختم الدكتور "الخريصي": ومن شواهد الطباق ما جاء في قوله تعالى: "خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ" "الواقعة: 3"، فبين "خافضة" و"رافعة" طباق، وفي معنى هذا الطباق، يقول الزمخشري: "هي خافضة رافعة؛ ترفع أقوامًا وتضع آخرين، يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتّضع ناس، أو لأنّ الأشقياء يحطون إلى الدركات، والسعداء يرفعون إلى الدرجات، أو لأنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارّها، فتخفض بعضًا وترفع بعضًا".