في شرق محافظة عنيزة وعلى بُعد ١٠ كلم، تبرز بلدة واعدة جميلة تسمى "العوشزية"، ويحلو لسكانها أن تسمى "قرية الملح"، أو "منجم الذهب الأبيض"، تتميز بوشاحها الثلجي الأبيض وبحيرتها المليئة بالكنوز؛ إذ تحمل أطنانًا ضخمة من الملح الطبيعي المستخرج من "بحيرة الملح" التي تعد من أكبر بحيرات الملح في الجزيرة العربية بمساحة تبلغ 50 كلم تقريبًا.
وتسلط "سبق" الضوء على بلدة العوشزية من الناحية التاريخية، وسبب التسمية وحضورها في روايات الرحالة "الريحاني" و"فلبي"، إضافة إلى كيفية استخراج الملح من بحيرتها، واهتمام الآباء والأجداد بذلك، ورحلة ازدهار الإنتاج وأسباب الاندثار.
بلدة العوشزية هي إحدى مراكز محافظة عنيزة بمنطقة القصيم، وتبعد عنها ١٠ كلم من جهة الشرق، وتسمى البلدة بـ"العوشزية" نسبة إلى شجر العوشز، ويطلق عليه "العوسج" في اللغة العربية، وهو شجر صحراوي يورق في الربيع، له أوراق صغيرة خضراء وفيه أشواك كثيفة، وكانت بلدة "العوشزية" تسمى قديمًا، "البصيرة" بتسكين الباء والصاد وكسر الراء.
بحيرة الملح الواقعة في بلدة العوشزية هي عبارة عن بحيرة ملحية لها مسميات عديدة منها "سبخة العوشزية" و"مملحة العوشزية" و"بحيرة الملح"، وهي منطقة منخفضة تقع وسط المركز وتجتمع فيها مياه الأمطار في الشتاء فتشكل بحيرة مائية ضخمة تستمر طوال فترة فصل الشتاء، ومن ثم تتحول إلى ملح الطعام الأبيض في الصيف بعد تبخر المياه، وتقدر أطوال البحيرة بـ10 كلم طولًا، وعرضها ٣ كلم تقريبًا، ويخترقها طريق معبد بطول 2.5 كلم.
ويتم استخراج الملح من بحيرة العوشزية، باختيار الموقع الأبعد عن أطراف البحيرة حتى يكون الأكثر نقاوة، ثم اختيار الأحواض الأكثر استواءً لكي يتم التجميع بسماكة ثابتة ونقية من التراب، ويترك ماء بحيرة الملح ليملأ الأحواض ثم ينتظر لعدة أيام حتى يتبخر الماء ويتكون الملح.
بعد ذلك تُجمع الطبقة المتبلورة من الملح، ثم تُترك لتجف، ثم تعبأ في أكياس بمقاسات مختلفة ومن ثم يتم تصديرها للأسواق.
مع بدايات عهد التطور في المملكة العربية السعودية، ازدهر تصدير الملح في بلدة العوشزية خلال عهد المؤسس الملك عبدالعزيز، والملوك سعود وفيصل رحمهم الله وطيب الله ثراهم؛ إذ ساهمت الشاحنات "اللوري" في تسويق منتج الملح إلى المدن البعيدة، خصوصًا محافظة الطائف التي اشتهرت بصناعة دباغة الجلود، فكانت الشاحنات تنقل الملح من العوشزية إلى هناك.
وعلى إثر هذه الصناعات ازدهرت صناعة الملح وإنتاجه في العوشزية؛ حتى إن العائلات كانت تخرج للعمل في إنتاج وتحميل الملح، واستمرت هذه الطفرة سنوات عديدة.
ولكن إنتاج الملح ضعُف شيئًا فشيئًا بسبب توقف إنتاج الجلد الطبيعي، ومع تحول الحياة إلى التحضر والمدنية، قَل إنتاج العوشزية من الملح، ليترك أهلُ البلدة جمع الملح بعد ذلك.
تعتبر بحيرة العوشزية، منتجعًا مميزًا، وموقعًا سياحيًّا واعدًا في موسم الأمطار؛ إذ تمتلئ البحيرة بالمياه على مساحات شاسعة، وتستهوي السياح والمتنزهين ومحبي البر على حد سواء.
وتكتظ البحيرة وشواطئها بالجلسات العائلية كل عام؛ إذ يقصدها المتنزهون من كافة مدن ومحافظات القصيم، والمحافظات المجاورة، ووثق المصور عبدالرحمن الدلقان، البحيرة بصور جوية، لحظة امتلائها بمياه السيول والأمطار في فصل الشتاء.
كان لقرية العوشزية حضور مميز في روايات أشهر الرحالة العرب وغير العرب ممن قاموا بعدة رحلات تاريخية للجزيرة العربية؛ حيث أبهرتهم تلك القرية وبحيرتها الملحية بجمالها وضخامتها ونقاوة ملحها.
يقول أمين الريحاني: "عندما وصلنا إلى العوشزية بعد الظهر تركنا الخدم ينصبون الخيام ويعدون الطعام، وسرنا أنا ورفاقي إلى القاع شرقًا من القرية.. فإذا نحن بعد ذلك في أرض سبخة موحلة، وإذا بالنهر والقاع قيد بضعة أبواع منا.. أنهر في نجد؟ أي نعم، نهر من الملح المتجمد، من فصفات السوداء، عرضه نصف ميل، وطوله من الخمسة إلى السبعة أميال، ووجهه كوجه الماء وقد عَقَده القرّ جليدًا.
وأضاف: "خضنا الأرض الموحلة إلى الصفحة البيضاء فألفيناها جامدة مصقولة كالجليد، وصلبة كالجلمود، وناشفة كالرمل، ولا باردة هي ولا حارة.. جلست هناك وتربعت وشكرت الله على هذا المظهر الغريب العجيب في الكائنات، هو ذا نهرٌ ماؤه جامد جاف، وهي ذي بحيرة حار جليدها..".
وتابع: قطعنا صفيحة من هذا الملح فإذا سمكها أربع أصابع، ويتخلله شيء من التراب والقش، أما إذا دنوت من وسط القاع فيزداد السمك، ويصفو الملح، فيقل فيه التراب".
ويقول سانت جون فيلبي (عبدالله فيلبي) عن مملحة العوشزية: غور واسع من الملح يستمر عدة أميال على طول الجبل يسمى مملحة العوشزية التي تبدو كبحيرة ضخمة متجمدة ومغطاة بالثلج ولكنها تحتوي على طبعة من الملح الأبيض الصافي بعمق قدم واحد، وبعدها طبقة من الطين الأسود الذي يصبح بعد سقوط الأمطار خطرًا على من يسير عليه.
وأضاف: "يستفيد من هذا الملح سكانُ السر والمذنب والعوشزية، ويأخذون حاجتهم منه بالمجان؛ وخاصة الجزء الشمالي الأكثر جودة.. ومخزون ملح العوشزية لا ينضب، ومن الصعوبة بمكان أن ينقل الملح الجيد من السواحل لصحاري نجد".