هجرة العقول تتمثل في امتناع بعض الذين يتلقون تعليمهم في الخارج عن العودة إلى أوطانهم. وتشير الدراسات إلى أن 45 % من الطلبة العرب الذين يدرسون في الغرب لا يعودون لبلادهم. وفي دراسة أُجريت على الطلبة المسلمين والعرب الدارسين في الدول المتقدمة، واتجاهاتهم نحو العودة إلى أوطانهم بعد إنهاء دراساتهم، تبيَّن أن نسبة كبيرة من هؤلاء الطلبة تقطع بالبقاء والاستقرار في مقر البعثة. وبالنظر إلى هجرة هذه العقول بتمعن أكثر فإنه يمكن استنتاج أن لهذه النسبة الكبيرة من الهجرة للعقول النابغة أسبابًا كثيرة مختلفة ومتنوعة؛ لأنه ليس من السهل على هؤلاء هجر أوطانهم، وترك أهاليهم وراءهم، إلا لضرورة ملحة تدعوهم إلى ذلك. وقد عمد الباحثون إلى إحصاء هذه الأسباب فوجدوا أنها ترجع إجمالاً إلى: الأسباب الاقتصادية:وهي الأسباب الأساسية في هجر الأوطان بسبب انخفاض مستوى المعيشة في الوطن الأم، وانخفاض الأجور والمرتبات به، خاصة أن هؤلاء المفكرين قد أنفقوا أموالاً طائلة على تحصيلهم العلمي العالي. ثانيًا الأسبابالاجتماعية: وتتمثل في فقدان المهاجرين الاحترام والمكانة اللائقة بهم في الوطن الأم، وانعدام الروابط الاجتماعية بين العلماء ونظرائهم، وصعوبة التأقلم مع التغيرات التي تحصل في بعض مجتمعات دول العالم الثالث في كل الميادين. ثالثًا الأسباب السياسية:وتتمثل في عدم الاستقرار السياسي للوطن الأم، وطموح بعض العلماء إلى تولي مناصب قيادية دون تمكُّنهم من ذلك. رابعًا الأسبابالأكاديمية: وتعد هذه من أهم الأسباب الدافعةإلى هجرة العقول، وتتمثل في:
1 - ضعف الإنفاق على البحث العلمي من قِبل الدولة الأم.
2 - القيمة الكبيرة لنوع التخصصات التي يحملها المهاجرون، خاصة النادرة منها؛ ما يؤهلهم للحصول على فرص أوفر في الدول المتقدمة.
3- ضعف الصلة بين مراكز البحث العلمية والمؤسسات الأخرى في الوطن الأم.
4 - ضعف الصلة بين التعليم الجامعي وسوق العمل في الوطن الأم.
5 - عدم "مواءمة" تخصصاتهم العلمية مع سوق العمل في الوطن الأم.
6 _ قلة فرص النجاح للتخصصات النادرة في الوطن الأم.
إن هجرة هذه العقول تعد استنزافًا حقيقيًّا لجسد الأمة العربية، وعائقًا مخيفًا لتقدمها؛ لأن هذه العقول تمثل الثروة الرئيسة لها؛ ويتوجب عليها السهر على الحفاظ عليها، واستثمارها أحسن استثمار؛ لأن الدول العربية دول نامية كما هو معروف، وبحاجة إلى كل فرد من أفراد أمتها للنهوض بها حضاريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وتجاريًّا وعلميًّا.. إذا ما أرادت مواكبة العصر بمختلف معطياته ومتطلباته؛ لذا عليها أن توفر أسباب الراحة لكفاءاتها، وتؤمِّن لهم كل وسائل العمل، وتساعدهم على الإبداع، بدلاً من سد أبواب النجاح في وجوههم، ودفعهم للهجرة الخارجية بالتنقلإلى بلدان أكثر حضارة وقوة اقتصادية وعلمية، أو تكون "هجرتهم الثانية" هي للهجرة الداخلية بهجر تخصصاتهم، وترك ميادين إبداعاتهم، وامتهان مهن عادية من أجل تأمين حاجيات معيشتهم؛ ما يترتب على الحالتين خسارة كبيرة لهذه الدول؛ فقد أشار تقرير منظمة الأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليونَي خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا يعملون في الدول المتقدمة؛ إذ يسهم وجودهم في تقدمها أكثر، ويعمق رحيلهم عن الوطن العربي آثار التخلف والارتهان للخبرات الأجنبية. كما أنه حسب آخر الإحصاءات لعدد من المنظمات والمراكز العربية، يترتب على هجرة هذه العقول خسائر صافية، تنال من مقدرات المجتمعات العربية؛ إذ يشير أحد تقارير منظمة العمل العربية إلى أن الدول العربية تتكبد خسائر سنوية، لا تقل عن 200 بليون دولار بسبب هجرة العقول إلى الخارج. وتقترن هذه الأرقام بخسائر كبيرة، نجمت عن تأهيل هذه العقول، ودفع كلفة تعليمها داخل أوطانها؛ ما يؤكد أن الدول العربية تقدم مساعدات إلى البلدان المتقدمة عبر تأهيلها هذه الكفاءات، ثم تصديرها لها لتستفيد من خبراتها العلمية؟! وقد حان الوقت لكي نجعل هذه القوة العلمية سلاحًا منيعًا في يد الدول العربية، يدافع عنها، ويدفع بها إلى الأمام، بدلاً من أن تصبح سلاحًا فتاكًا في أيدي الدول الغربية التي تعتمد عليه في تقوية نفوذها وجبروتها، وتستعمله للسيطرة على الدول العربية، وجعلها تابعة لها دائمًا في كل المجالات الصناعية والاقتصادية والعلمية والسياسية.
هنا في وطني المملكة العربية السعودية وصل عدد المبتعثين في دول الابتعاث تقريبًا إلى 200 ألف طالب وطالبة. وقد شملت التخصصات الدراسية للمبتعثين ما يفوق 65 تخصصًا علميًّا وتقنيًّا وطبيًّا.. وحتى نضمن أحسن استغلال لهذه القوة العلمية الوطنية، وحتى نضمن عودتها إلى الوطن لتشارك في خدمته وتطويره؛ لأنه حقيقة أصبحنا نلحظ أعدادًا كبيرة من المبتعثين يواجهون مشكلة "التوظيف"، وذلك عبر السباحة للنجاة من الغرق في بحر البطالة؟!! ولخوفنا من ارتفاع نسبة هذه الظاهرة لدينا كما هو الحال لدى غيرنا، خاصة أننا نستقبل سنويًّا نسبة هائلة من الطلبة المبتعثين ببرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي.. لذا نأمل أن يتم إنشاء هيئة خاصة للابتعاث الخارجي، أيمنظومة عمل للدولة.. وتستطيع هذه الهيئة التخطيط والتنظيم وتنفيذ أعمال الابتعاث بداية من حصر احتياجات الدولة إلى التخصصات المطلوبة، خاصة النادرة، واختيار المبتعثين وإعدادهم قبل البعثة، والإشرافعليهم ورعايتهم أثناء فترة إقامتهم في دول مقر الابتعاث كما هو "حال" الملحقيات الثقافية حاليًا، ومتابعتهم بعد العودة لضمان توظيفهم، خاصة متابعة الطلبة "النوابغ" المميزين، والحرص على عودتهم وتوظيفهم بما يتناسب مع مؤهلاتهم، وليس في الوظائف الشاغرة البعيدة عن تخصصاتهم.
فهذه "الهيئة" ستعمل على الحفاظ على عقولنا المفكرة التي أنفقت مملكتنا في سبيل تكوينها أموالاً طائلة، وعملت دائمًا على تطويرها، وتحسين مستواها حتى تعود لوطننا، وتشارك في خدمته وتطوره.. لأن الاستثمار في الإنسان في التعليم والتدريب في أشكاله وألوانه كافة هدف تحقق، ولا يزال مستمرًّا بتوجهات من خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين –حفظهما الله تعالى-، وركزت عليه رؤية السعودية 2030 في أحد برامجها عبر رأس المال البشري الذي هو حجر الزاوية في تحقيق الرؤية.. فالإنسان المنتج هدف رئيس لكل الجهات، حكومية كانت أو غير حكومية.